الطفل الذي كنته – د. عزيز الهلالي: مدينتي يسكنها حب نائم

7 أبريل 2022

” الطفل الذي كنته ” سلسلة رمضانية تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتاب وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية

حلقات تعدها : أمينة بنونة
في فضاء مدينتي وعلى حيطانها تسكن لحظات مني وتتوزع نسائمها عبر الأمكنة. فالمكان مأوى المشاعر، يختزن الفرح والسرور، الحزن والمرح، الغضب والضحك.. وبقدر ما تنمو المشاعر وتكبر، بقدر ما تصير المدينة جمرة من الحنين، أما وأن تلتقي بصديق أو صديقة جمعتكما طفولة المدينة، هنا يسكب الزمان ألوانه الوردية أو الرمادية أو هما معا، أحيانا يكون الزمان بدون لون أو رائحة أو ذوق شأنه شأن الماء. لست أدري لماذا عقدت مقارنة بين الزمان والماء؟
إن اللحظة التي نعتقد أن الزمان أقبر فينا مشاعر المدينة، هي نفس اللحظة التي تباغتنا صورة أو علامة أو رائحة، فيفيض كلامنا شلالات من المشاعر، قد تحاصر اللغة كلامنا، لكن لا تقوى على إيقاف تدفق ذكرياتنا.
في مدينتي القصر الكبير أينعت مشاعري ورودا، عندما تسلل إلى قلبي نسمات أول حب طفولي، حَمَلَتْهُ كل الأمكنة: المنزل، المدرسة، الشارع، الأسواق، الأضرحة، الحي، المقبرة…كنت أحمله وأجول به وعبره فضاءات مخيلتي. كنت أتمرغ في حب بنكهة الخيال، ولطالما انتصر الخيال على عوائق كابحة للحب. كانت علاقتي بمخيلتي، علاقة تجاور مستمر. أستعين بها لحظة لقاء خاطف مع معشوقتي، أتقمص بطولات وأتماهى مع شخصيات سينمائية وألعب أدوارها الدرامية، وأحاكي حركاتها. كان هدفي أن أطبع صورة خالدة في قلبها عن فتى اجتمع فيه ما تفرق في غيره. كانت تبادلني نظرات حالمة وابتسامة عاشقة تحمل كثير من الإعجاب. أذكر عندما ينتهي اللقاء بيننا، ويا ليته طال وامتد، أستعين مرة أخرى بمخيلتي أعيد بناء مشاهد اللقاء، كما أعيد رسم أمكنة مدينتي رسما فيه كثير من الألوان الساخنة كالأحمر والبرتقالي والأصفر، عسى أن ترفع منسوبا قويا من النشاط والحيوية والسعادة.
في مدينتي كبرت معي جذور مشاعر حب طفولي وأزهرت ياسمين، وامتزج في داخلي صورتين: صورة معشوقتي وصورة المدينة. وانتهت حكاية حب طفولي على وقع الإكراه والأقدار، لكن هل أقبر الزمان في داخلي مشاعر المعشوقة والمدينة؟
بعدما انتصبت بيننا حواجز الزمان واللغة، حدثت مصادفات والتقينا من جديد. كان اللقاء عبارة عن تجلي لحكايات شديدة الاختلاف. باعد الزمان بين حكاياتنا وأرخى بظلاله على لغتنا. التقينا صدفة بعد أربعة عقود من الغياب. تسمرت عيناي تتأمل ملامحها، فعادت المدينة إلى ذاكرتي في أبهى صورها، تقدمت نحوها وسألتها بنبرة فيها قدر كبير من التردد:
– هل تذكريني؟
– نظرت إلي بتمعن ثم قالت:
– آسفة خانتني الذاكرة.
أدركت حينها أن الزمان ماكر، مال وحط بثقله على مساحتي في ذاكرتها.
– قلت لها، وأنا أتحسس في ألفاظي مفاتيح هوية نصفها غبار وصدأ، ونصفها الآخر انفجار وبوح:
– أنا أنت يوم جرفنا المعنى وأغرقتنا الإشارات.
رسمت ابتسامة على ثغرها، ثم قالت في حرج :
– ربما تمكن مني مرض لعين أتلف جزء من ذاكرتي.
تملكني حزن، وقلت في نفسي:
– لماذا اختار التلف مساحتي؟
– قالت لي: احكي، عسى أن يكون الحكي شفاء يعيد لي ذاكرتي.
– قلت لها: في يوم من الأيام، أذكر أنني ناولتك قلما ودفترا سقطا منك سهوا، سقطا من حقيبتك المدرسية، فسقطت نظراتك على عيوني، ففاض على ثغرك ابتسامة، وانطلقت رحلة العشق على بساط دفتر كان القلم يُدوّن بداية حب طفولي.
كانت تسمع بقلبها كلمات وقد صارت عطرا، أغنية، زغرودة، نشيدا، صفيرا، زقزقة، هديلا، ثم غابت لحظات في عالم كانت قد رسمته مخيلتها الطفولية، لكنه تصدع وضاع وسط فوضى الزمان وغدره.
اندفع شهيق لافح من قلبها، وقالت في سكون :
– آه يا زمان ارجع.
– سألتها بعطف: ماذا لو رجع الزمان؟
– قالت وكأنها تعيد بناء قطع مبعثرة :
– سأكون أنا أنت وقد غرقتنا الإشارات وجرفنا المعنى.
ملحوظة: أحداث هذه الحكاية واقعية، أجريت فقط لمسات بسيطة على نص الحكاية لأسباب فنية وجمالية.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading