غاية السياسة التي روجت لها فئة الكتّاب”

18 فبراير 2022

ذ. الخليل القدميري

أدخل الكتاب الإداريون فكراً سياسياً معيناً موزعاً في ” الحكم” و ” النصائح” و “الوصايا” التي اشتملت عليها آدابهم السياسية. ومنها يمكن استخراج أفكار سياسية محددة، تدور حول فكرة أساسية هي أن السياسة علم وتقاليد، فهي علم لأنه لابد فيها من معارف فنية لتدبير الحكم وشؤون الدولة تقدم إلى الحاكم، وهي تقاليد لأنه لابد للحاكم من أن يستوعب فن الحكم كما عرفته الأمم السابقة التي رسخ فيها نظام الدولة. وكان الهدف هو إرساء إيديولوجيا وتقاليد الحكم الملكي الاستبدادي، وتلك كانت غاية “السياسة” التي روجت لها فئة الكتّاب.
وكان المنظِّر الأكبر لهذا النوع من الفكر السياسي هو عبد الله ابن المقفع. وقد اعتبر ابن المقفع أن العرب جُدُدٌ على السياسة، ولابد لهم أن يتعلموا نظامها، وهذا النظام عنده، هو الحكم الملكي الاستبدادي على الطريقة الساسانية، فنَقَل ما نَقَل من كتب سياسية فارسية.
وكأن ابن المقفع توخى أن يتغلب الحكام العرب على عقبتين تعوقان رسوخ تقاليد النظام السياسي الملكي: العقبة الأولى مصدرها ماضي العرب البدوي، فالبدوي، كما شاع في الأدبيات السياسية، غير سياسي بطبعه، لأنه لا يتحمل الامتثال لحاكم، والطاعة لسلطة قسرية، فهو بطبيعته ونمط حياته يمثل نقيض الدولة.والعقبة الثانية يمثلها الدين الذين كان العرب أول من نصره، ففيه بعض المبادئ التي قد تنافي نظام الحكم المطلق الذي دعا إليه ابن المقفع. فإنّ تَرْكَ واجب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” مفتوحاً للمسلمين، يترتب عنه نسف أساس “نظام” ابن المقفع القائم على الطاعة المطلقة للسلطان المطلق. ثم هناك الشريعة، وهي حاضنة لسلطة قد تقف متحفزة في وجه السلطة المطلقة، فتطعن في شرعيتها.
الحكم الاستبدادي يلغي كل وساطة بينه وبين “الرعية”، والشريعة قد تنتصب حائلاً بين السلطان والرعية، فلا يكون وحده مصدر السلطة، لا شريك له فيها. وكان على ابن المقفع أن يحل -على طريقته- مشكلاً خاض فيه مفكرو الإسلام وفقهاؤه طويلا، وهو ما العمل حين يخرج الحاكم عن العدل الذي يأمر به الدين؟
وكان على ابن المقفع أن يتحايل لكي لا يظهر انحيازه إلى واحد من المذهبين المتقابلين: مذهب من يشرطون طاعتهم للحاكم بطاعة هذا الأخير لله ومذهب الذين أفتوا بالطاعة للحاكم حتى ولو كان مستبداً جائراً، لأن وجود سلطة مهما كانت، هو خير من لا سلطة( أي من الفوضى). ومع ذلك، فإن النتيجة التي وصل إليها هي فسح المجال لنظام الحكم المطلق بقوله الفضفاض:” لايطاع الإمام إذا استحل الحرام ومنع الفرائض والحدود”، وهو قول يوافقه عليه جميع المسلمين، ولكنه يحصر “الحلال” و “الحرام” في حدود دينية ضيقة لا تشمل ما هو سياسي.
والواقع أن ابن المقفع إذ يميز ما هو سياسي مما هو ديني، إنما يفعل ذلك لينتهي، إلى إلحاق الدين والسياسة معاً بإرادة الحاكم. ويبقى المطلوب من المحكومين هو الطاعة المطلقة له في المجالين السياسي والديني، ويدل على ذلك قول ابن المقفع:” إن إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يطاع فيه غيره، فإن ذلك في الرأي التدبير والأمر(…) من الغزو والقفول، والجمع والقسم، والاستعمال والعزل، والحكم بالرأي(…)”. ويتضح مما سبق أن ابن المقفع كان يرمي ليس إلى جعل السياسة قضية عامة، بل إلى جعلها ملكية خاصة للحاكم.
وحتى المجال الضيق الذي سمح به ابن المقفع للدين جعله أيضاً تحت رقابة الحاكم. فهو الذي له ” إمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة”، أي الكتاب والسنة كما يريدهما الحاكم لمصلحته.
ولكي تكتمل حلقته الاستبدادية، تصدى ابن المقفع لقضية الشريعة ليبطل دورها كملجإ في وجه طغيان الحكام، حين تصبح سلطة في مواجهة السلطة.
لذا فإن هذا “الكاتب” دعا إلى تبعية الشريعة للسلطان. فقد دعا الخليفة إلى “توحيد” الشريعة، أي وضع حد لتعدد الأقضية( الأحكام)، أي إقفال باب الاجتهاد في الشريعة. ورغم أن المذاهب الفقهية كانت لم تتأسس بعد في عهد ابن المقفع، وهو مع ذلك دعا إلى فرض المذهب الواحد (مذهب السلطة).
يبدو أن ابن المقفع واضح: ف”الأمر” (في معناه الأصلي الحكم والتدبير السياسي) مسألة لا يختص بها الدين مباشرة، بل هي حسب قوله موكولة إلى ” الرأي”. أو بتعبير آخر، السياسة مسألة راجعة إلى البشر. ولكن الرأي عند ابن المقفع هو جعل “الرأي إلى ولاة الأمر، ليس للناس في ذلك الأمر إلا الإشارة عند المشورة، والإجابة عند الدعوة”. وحتى الشورى التي وردت في القرآن يجعلها هذا الكاتب غير ملزمة، قد يطلبها الحاكم حين يحلو له ذلك وهو غير مقيد بها. فهي شورى غير ملزمة ولا مقننة، بل هي حالة اختيارية (أو بالأحرى مزاجية) معلقة بإرادة الحاكم الفرد الذي يعتبر السلطة ملكيته الخاصة.
من كتاب السلطة السياسية والسلطة الثقافية ل”علي أومليل”.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading