_ حنان قدامة :
هي خلاصة تجارب راكمتها أثناء اشتغالي مع إحدى الجمعيات المهتمة بالاستشارة الأسرية والتربوية، لا أدعي فيها نجاحا، ولكن أسجل فيها اعترافا بأنني وفقت في أن أفتح كوة تسلل منها شعاع أمل، خفف من حدة ألم .
.
اسم في شهادة ميلاد .
ذات مساء في مكتب الجمعية، جمعني القدر بالسيدة سامية أم في مقتبل العمر تيًمها حب ابنها ذي السبع سنوات، حب فاح شذاه وهي تسرد لي حكاية وحيدها أيمن .
في مدينة صغيرة ولد أيمن، رأى فيها نور الحياة، لكنه لم ير وجه أبيه الذي انفصل عن والدته بعد رحلة زواج قصيرة، غاب فيها السكن والأنس عن بيت الزوجية الواهن .
خفضت الأم الشابة جناح الحنان والرحمة لوحيدها ، سخرت جميع إمكانياتها لإسعاده ، لكن فرحتها بوليدها كانت تتكدر بسبب رفض الوالد القاطع والمتكرر رؤية ابنه وهو القاطن بنفس المدينة.
عقوق الوالد نتج عنه ظهور بعض الأعراض المقلقة على الإبن تأخر في الكلام- انسحاب اجتماعي – قلق وخوف كان يحتمي منه باحتضان والدته ولعبته . .
قصاص أيمن من والده جاء سريعا ولم يتأخر، بعد رفضه الحديث عنه والإشاحة بوجهه عن صوره، صارفا وجهه و روحه إلى مالكها: أمه.
عند بلوغه سن الرابعة ،ولج أيمن مدرسة خاصة، كل المشرفين عليها شهدوا له بتفوق دراسي لم يستطع إطفاء نار اللوعة التي نشبت في صدرِ سامية اثر التحاق “أخ أيمن الأصغر من أبيه” بنفس المؤسسة التعليمية، وإصرار الوالد على عدم احتضان أيمن مكتفيا بالحديث- نادرا- معه عبر شبكة الإنترنيت ،عوض أن يٌجبِر بقبلة حنان وضمة وصال روح طفل جريح ،أثخنه جرح أهلك الألم : الألم الصامت .
من أجل مصلحة أيمن نشدتني السيدة سامية أن أرشدها الى المنهج التربوي السليم في التعامل مع ابنها و كيفية ربط اتصال ناجح بين والد و ما ولد: والد استبطأ أبوته، و ولد عجل إليه اليتم قبل الأوان .
المعالجة
قبل أن أتحدث مع سامية عن حالة أيمن لفت انتباهها إلى مسألة في غاية الأهمية يتجاهلها الكثير من الآباء بعد فشل تجربة الزواج.
صحيح أن العلاقة الزوجية تنتهي بالطلاق، لكن علاقة الوالدية لا تنفك عَراها بل هي تستمر باستمرار حياة ثمارها –الأبناء- ومن ثمة يجب على الوالدين بعد الطلاق الانتقال بكل رقي وسلاسة من رابطة الزوجية التي جمعتهما في الماضي إلى رابطة الأبوة والشراكة التي تجمع بينهما في الحاضر.
نبهت سامية إلى ضرورة تحسين تواصلها مع طليقها- إن أمكن -الذي ربما يندرج رفضه لقاء ابنه في لعبة شد الحبل بينه وبين طليقته فهي أحيانا تستهوي بعض الآباء المطلقين الغافلين وغير المدركين لأخطارها التربوية. من أجل ذلك رجوت مشيرتي أن تقلب صفحة الماضي فهي لاتملك غير ذكرياته بينما الحاضر في ملكها وينبغي أن تعيشه بأمومة عاقلة .
من أساسيات الأمومة العاقلة تغيير لغة الخطاب مع والد ابنها، تجنب أسلوب التوبيخ والملامة ، فالطلاق حصل وتم لكن التحلي بالذكاء الاجتماعي ممكن أن يصير طلاقا ناجحا لزواج فاشل ، يسكت غضب جميع أطرافه خصوصا ثمرته اليانعة أيمن.
أرشدت سامية إلى الحديث عن طليقها أمام طفله بلغة إيجابية، تذكرسجاياه و محاسنه، فالسكوت عن ذكر الآباء بعد الطلاق هو شكل من أشكال الطعن والاستصغار. . جميل أن تريه صورها مع والده، ويا حبذا لو تكون صور توثق فترة الحمل به ،. من أجل أن يتحسس الصغير فرحة أبيه بمقدمه إلى الحياة ويتجنب الشعور بالذنب .
فيما يخص تواصل أيمن النادر مع أبيه ألححت على سامية بضرورة تشجيعه وحسن استثماره ، فيوما ما سينكسر عقوق الوالد أمام فطرة الأبوة .
ممكن أيضا إشراك بعض الحكماء من الأقارب والمعارف في رأب الصدع بين طليقها وابنه .
ذكرت الأم الشابة بأن تطور الطفل الجسدي- المعرفي- الاجتماعي والعاطفي يتأثر بقدرة حاضنه على توفير البيئة المحفزة له ، وهي على ما بدا لي لم تخرج بعد من صدمة طلاقها، لم تتعايش بعد مع واقعها الجديد ، فقد لمست وجعها النفسي في انكسارها وأنينها ، لذا فحري بأم أيمن أن تشتغل على نفسها حتى تخرج من هزة الطلاق وتتحرر من شرنقة الاحتراق النفسي .
حرصت على أن احذر سامية من أمرين أساسيين: أولاهما محاولة استعواض زوجها السابق في أيمن ،تحميله ما لا يطيق خصوصا من الناحية النفسية فهو لازال طفلا يجب أن يعيش طفولته ويرتع في مراعيهاالخضراء.
ثانيهما السقوط في فخ الحماية الزائدة والتدليل المفرط ،كلاهما له أثار تربوية سلبية على شخصية الأطفال زيادة على أن الطفل يتوه بدون وضع قيود وخطوط حمراء .
من جانب آخر حذرت سامية من تعلقها الشديد بأيمن ومحاصرتها له فهي تحجب عنه الأصدقاء وزملاء المدرسة ، فلا بأس أن يلهو مع أقرانه ولا بأس أن يتقرب إليه بعض رجال الأسرة الثقة حتى تتطور مهارات أيمن الإدراكية وسلوكاته الرجالية.
لم يفتني في آخر لقائي مع السيدة سامية أن أنصحها بضرورة ملأ أوقات فراغها و فراغ الصغير بالأنشطة الاجتماعية والرياضية حتى يفرغان معا طاقتهما السلبية ويتخلصا من مشاعر الإحباط واليأس ، فأكبر القتلة قتلة الأمل.