التحقت بالتعليم وقد تجاوزت الثلاثين من عمري

15 يناير 2022

د. محمد البدوي :

كان عمري اثنتين وثلاثين عاما حين التحقت بالتعليم الثانوي، بعد اجتياز مقابلة شفهية وفقت فيها بامتياز، فكانت المكافأة أن عينت في الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين الغرب الشراردة بني حسن، ومن توفيق الله أن يسر لي رجلين من العيار الثقيل؛ الأول هو سيدي محمد الزباخ مفتش منسق جهوي تخصصي لمادة التربية الإسلامية بالقنيطرة، حيث صاحبني في تأطير بيداغوجي مركز قارب الشهر ، وكانت لنا معه جلسات ماتعة مكتنزة بفوائد وغرر ودرر، وأما الثاني فهو صاحبي وأخي وأستاذي ومرشدي سيدي أحمد العبودي الذي دفعني القدر صوبه وألقى بي بين يديه ، فكان لي منحة ربانية وعطاء رحمانيا إذ حبب إلي مهنة التدريس ورسالتها ،ولا أخفي أنني كنت شغوفا به، خاصة لما أطلعني على خبايا من جمالية مادة التربية الإسلامية وكنوزها فأحببتها والتصقت بها فقبلت بي طوعا لا قسرا، ربما لأنها أدركت إخلاصي وإحسان ظني بها.
لا أنسى ما حييت عواطفي المتدفقة ومواجدي الملتهبة في لحظات كنت أنتظر هذا الرجل بباب ثانوية مولاي عبد الله الشريف بوزان ، مدينتي ومسقط رأسي إنه تاريخ موشوم على ذاكرتي ؛ دجنبر موسم 2006/2007. اشتدت فرحتي لما سلم علي وأمسك بيدي وربث على كثفي وهمس في أذني قائلا : ” لقد اخترت لك في التأطير أحسن مدرس للتربية الإسلامية بهذه المدينة…” . ولجنا معا قاعة الدرس وجلسنا في المقاعد الخلفية وأنا أراقب عن كثب وبعفوية حركات المدرسة وتدبيرها للدرس، أسجل بعضا مما يمكن أن يكون لي عونا وسندا في بداية مساري المهني، وما إن انقضت الحصة حتى أيقنت أني فعلا مع أستاذة ألمعية خبيرة ومقتدرة ملكت أسرار المهنة وأتقنت لعبة السحر البيداغوجي . لم تمنعها قامات المتعلمين الطويلة من إحكام السيطرة على مجريات الدرس ،تهيمن على الفصل الدراسي وترصد كل زواياه لا تخفى عليها خافية من حرات وسكنات المتعلمين .كانوا في وضعية انتباه لافت كأن فوق رؤوسهم الطير، والعجيب أنها تنادي كل واحد منهم باسمه الشخصي كما لو كانوا أبناءها أو إخوانها. حينها تذكرت شهادة أستاذي وقلت في نفسي ” لقد صدق ، هذه المدرسة هبة من السماء ” .في لحظة من اللحظات الأخيرة للدرس طلب السيد المفتش الإذن من المدرسة وتوجه مباشرة للمتعلمين ببعض النصائح حول قداسة العلم ، وأهمية التفوق الدراسي وشروط الإبداع والتميز ومتعة الدراسة في رحاب الجامعات… شد انتباهي بتدخله وقلت مع نفسي : هذا ساحر سيكولوجي ، كبير لعله هو الذي علم السحر لأمثال هذه المدرسة الفذة .قبل أن ينهي توجيهاته وهو يثمن أداء المدرسة سطر كلمات لازالت راسخة في ذهني كما لو أنني سمعتها منه قبل قليل: ” لو كنت معكم أدرس عند هذه الأستاذة القديرة لسارعت لمسح كرسيها ومنضدتها بمنديلي أو بمعطفي قبل أن تدخل علينا ، أنتم أبنائي الأعزاء أكثر من محظوظين ! ”
منذ ذلك الحين توطدت علاقتي بالسيد المفتش، أنتظر قدومه كما ينتظر أحدنا قدوم شهر رمضان أو قدوم عزيز طال غيابه .
أزهرت علاقتنا وتوطدت حيث سافرنا معا ، وطعمنا معا، وبتنا معا ، وصلينا معا…فكم كانت تلك الليلة رائعة في دار الضيافة التابعة للنيابة الإقليمية بمدينة سيدي قاسم، حيث قمنا الليل جماعة وصلينا الصبح وجلسنا جلسة الشروق وتحلقنا حول المفتش نقتبس من نوره ونستزيد من كلماته وتوجيهاته ونصائحه. لحظات روحانية سامية ، ونسمات إيمانية عطرة ، والحق أن هذه الجلسة رجعت بي لزمن المأثورات ، زمن بداية الصحوة الإسلامية المباركة . الجلسة هزت كياني هزا وأثرت في وجداني وقلبي ، بسببها رجعت بي الذاكرة إلى كتب كنت قرأتها في بداية مرحلة شبابي وأعدت قراءتها في المرحلة الجامعة، ( معالم في الطريق…لسيد قطب وأيام من حياتي لزينب الغزالي ، والمأثورات… لحسن البنا، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين… لأبي الحسن الندوي ، والإسلام أو الطوفان …لعبد السلام ياسين، والحلال والحرام …ليوسف القرضاوي…)
بجانب المفتش أحمد العبودي تشعر بالأنس وتستحضر بعض معاني الإحسان وترجو ألا ترتكب ما قد يجعلك تخجل في حضرته خاصة وأنه شديد الحساسية ودقيق الملاحظة ولو من طرف خفي .
بعد صلاة الصبح استمتعنا بموعظة من الكلم الطيب ألقاها بين أيدينا أستاذ بسمته المتميز ولونه الأسمر، يعلو وجهه وقار واضح ، لا يكاد يرفع بصره .وبينما هو يعظنا كنت أنا أسترق النظر في وجوه هذا الجيل من أساتذة التربية الإسلامية وأجري مقارنات في نفسي بينهم وبين ذاتي : السمت ، اللباس ، السن ،اللحى… شعرت وكأنهم يهمسون في أذني بصوت واحد : ” لا فرق بيننا وبينك وإنما الفرق يصنعه الإخلاص وبذل الجهد ”
بعد تناول وجبة الإفطار توجهنا صوب المركز الجهوي حيث عمل الورشات التي كنا قد بدأناها البارحة . كان موضوع هذه التكوين حول المقاربة بالكفايات…وما أن أفلت شمس هذا اليوم بأنشطته المتعددة والمتميزة حتى كانت المفاجأة إذ منعنا من المبيت بدار الضيافة . ما الذي حصل ؟ وما لذي أزعجهم؟ أهو صوت القرآن الذي آنس المكان وطرد وساوس الشيطان؟ أم هي مادة التربية الإسلامية التي يتوجسون منها خيفة ؟ أم هي اتصالات وتعليمات ؟
الوقت تأخر ، وماذا نحن فاعلون وعددنا فوق العشرين وجئنا من كل حدب وصوب ؟
ماهي إلا لحظات وبعد اتصال السيد المفتش بصديقه رئيس المجلس العلمي المحلي ، السيد الرئيس رجل مبارك لطيف وديع ميمون ، وكما يقال : كل له نصيب من اسمه، رحب بالجميع وأقام عشاء على شرفنا فأكثر لنا من الشواء والشاي ، كنا في حاجة ماسة لذلك فالفصل شتاء والبرد لا يمزح .
الساعة تجاوزت العاشرة، وبدأ العياء يتسرب والنوم يداهم ، ونحن غرباء عابرو سبيل ننتظر فرجا من الله . في الليلة الظلماء يبزغ البدر كما تعلمنا ، لم يهنأ بال لسيدي أحمد حتى جاء وجهه تعلوه بسمة خير وقال : ” قضي الأمر ، هيا بنا فالمبيت جاهز”
كم كانت فرحة المفتش عارمة ، فرحنا معه ، ولو بكى لبكينا معه ، استقبلنا السيد الرئيس ، الرجل الميمون الكريم وهو يسأل كل واحد عن اسمه وبلدته ،رحب بنا وحيانا وقضينا ليلة أخوية ماتعة. مرت ثلاثة أيام ونحن هناك كانت بمثابة معسكر تكويني تواصلي.
أيها السادة ، قربي من هذا المفتش دفء وأنس وسند ، ربما أنا محظوظ أكثر من زملائي المدرسين فأحيانا يقول لي مبتسما : ” لك في قلبي مكانة خاصة ” لذلك حظيت بالاطلاع على ما يكتب قبل أن ينشره ،بل هو يسر كثيرا لما أقدم له ، على استحياء ، ملاحظات في شأن ما يود نشره ،وحتى يظهر لي أنه قبل ملاحظاتي يصرح كعادته بأن النقص والضعف سمة بشرية ، ووحده كتاب الله حاز الكمال ، قال تعالى : ” ألم ذلك الكتاب.”
أسعفتني الأقدار وظفرت دون غيري بالسفر معه حيث الوجهة واحدة ،من وزان إلى القصر الكبير والعكس أيضا ، بعدها أكمل رحلتي إلى العرائش التي كنت أسكن فيها. عبر هذه الرحلة التي يتجاوز أمدها الساعتين كنا نتجاذب أطراف الحديث ، حول قضايا الوطن والأمة والدعوة والتعليم ، كنت أحدثه عن تجربتي الناشئة وهو يصغي إلي ويهتم بي وكأنني أنا المفتش وهو الأستاذ . نتفق كثيرا رغم اختلاف مشاربنا التنظيمية ، ومن طرف خفي كان يوجه ويسدد ، يشير ويرمز. يسمع مني أكثر مما أسمع منه . كم كنت معه كثير الكلام مزهوا ، أفخر بشواهدي التي حصلت عليها قبل الالتحاق بالتعليم، ذكرت له أنني خريج كلية الشريعة جامعة القرويين بفاس وحاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الأحوال الشخصية، وخريج دار الحديث الحسنية بالرباط ، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في أصول الفقه، وحاصل على الإجازة في كلية الآداب بفاس ظهر المهراز، ومسجل بشعبة الآداب الألماني بفاس ولي باكالوريا تخصص اللغات الأدب الإنجليزي، في جعبتي أربع شهادات للباكالوريا تخصص العلوم الشرعية في التعليم الأصيل ، كان هذا رصيدي العلمي طبعا بعد الثلاثين عاما. بعد هذا الإطناب في الكلام علق السيد أحمد : ” التنوع يخصب التجربة وينضج الخبرة والتكامل المعرفي غنى وثراء رمزي لا ينازع ”
شاء القدر مرة أخرى أن أنتقل إلى مدينة القصر الكبير، إلى ثانوية وادي المخازن لأجد في استقبالي سيدي أحمد ، وهو ابن البلد يبحث لي عن بيت أسكنه، ويتصل بالسيد الناظر العام ويوصيه وصية الأب على ابنه، يرسلني إلى معارفه ويشير لي على الجزار الثقة و بائع الفواكه و المخبزة…
ومن عطاءات القدر الكبرى وبعد سبع سنوات اختلطت فيها السمان بالعجاف شاء الله أن يزف لي خبر انتقال السيد المفتش إلى مدينته وموطنه ومستقره ، فكانت فرحتي أشبه بفرحة الأطفال حين يعود أبوهم بعد غياب طويل .أنا الآن أكثر اطمئنانا وأوفر حظا ولئن سألتموني ما السبب لقلت لكم : ” من ذاق عرف ” كما يقول العارفون بالله ….

..يتبع

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading