_ محمد الجباري :
كنت أعتقد أن البنت الشقية مادلين لم تستوعب حجم الزلزال الذي هز مشاعري وهي تسألني ببراءة مفرطة: ” هل يمكن أن تحدثنا عن أجمل فترة في حياتك الدراسية؟” … آه صغيرتي مادلين كيف صوبت بدقة متناهية رصاصة نحو القلب فنتج عنها هذا الطوفان من الحنين والأشواق ؟ كانت مادلين أصغر من أن تعي أن أستاذها في الاقتصاد قد رحل وراء ذكريات من الماضي… وحده هذا الجسد من مكث في الفصل يتوسل القدر أن تمر الحصة بسرعة وسلام …
أتذكر ذلك اليوم جيدا وكأنه حصل بالأمس، وكأن سنة 2008 لم تغادرنا إلا من شهر أو شهرين، كنت قد انتقلت للتو إلى مدرسة بأمسفورد، جرت العادة دائما أن أمنح لطلبتي في الحصة الأولى هامشا وحرية في طرح الأسئلة، نعلت في داخلي هذه العادة السيئة وعاهدت نفسي أن لا أعود إليها أبدا! حاولت دون جدوى أن أبدو غير مكترث بسؤال مادلين لكن ابتسامتها الماكرة جعلتني أتصور حجم الحرج الذي فضحني جراء اجتياح هذه العاصفة القادمة من الشرق حيث تقبع الذاكرة ، شعرت بحرارة الجو رغم الصقيع والبرد فهرولت إلى فتح النافذة، كانت السماء رمادية مثقلة بالمطر، من السذاجة الاعتقاد أن صوت الرعد يظل حكرا على السحاب ولا تعلمه النجوم المتربصة بالسماء. كما أنه من السذاجة الاعتقاد أيضا أن مادلين لم تعلم بما خلفه إعصار سؤالها على نفسيتي الهشة والمتعبة فقلت لها : “بكل تأكيد مرحلة الاعدادي حينما كنت بالمغرب، وبالضبط في إعدادية المنصور الذهبي، لكن مع الأسف وقت الحصة لا يسمح أن أحدثكم كثيرا عن تلك المرحلة “.
أكيد لم يكن الوقت يسمح وها أنا ومنذ ذلك اليوم مازلت أحكي كلما اختليت بنفسي عن تفاصيل رحلة المنصور الذهبي التي لم تدم مع الأسف إلا أربع سنوات، كيف تريدين مني عزيزتي مادلين أن أختصر لك في نصف ساعة رحلة فيها الكثير الكثير من المتعة والتشويق والمعرفة والإبداع؟
يقول أنطونيو كوين في فيلم ” lion of desert
“تاريخ الشعوب يصنعه الأبطال” لقد صنع تاريخ ومجد المنصور الذهبي كوكبة من الأساتذة الأجلاء صحبة إدارة الاستاذ القدير سي حسن بنجلون، الذي جعل من فضاء المدرسة ملتقى للأدب والفن، حيث يُحتفي كل سنة بالشعر والمسرح والرسم… ، مع توالي نجاح الأسبوع الثقافي لإعدادية المنصور الذهبي صار موعدا سنويا تعدى صيته إلى كل الوطن، تعلمنا ونحن صغار أن نصعد الخشبة ونتعرف بالملموس على أبجديات العمل المسرحي، تعلمنا أن نكتب شعرا ونغازل بالريشة الألوان على الحيطان ونغني أناشيد للحب، للحرية، للصحراء وفلسطين، تعلمنا على صغرنا أن نجلس بجانب أساتذتنا لكي نستمع إلى محاضرات وندوات من طرف ضيوف الأسبوع الثقافي وهم من شخصيات الفكر والثقافة ، تعلمنا أن الإنسان يسمو بالثقافة والإبداع ، تصوروا معي في إحدى أيام الاسبوع الثقافي عوض أن نتابع الدرس داخل الفصل خرجنا إلى حدائق المدرسة الغناء الكثيرة الأشجار والزهور وجلسنا على شكل حلقات فوق الربيع نتابع بمتعة الدرس بينما كانت تصل إلى مسامعنا زقزقة العصافير ونشاهد الفراشات حولنا تتحرش بنا تارة وتعتلي زهور الارانج تارة أخرى…
كان يوم الجمعة يوما متميزا جدا في الاسبوع وقد تحولت ساحة الإعدادية وفضاؤها الرحب إلى ما يشبه ساحة الألعاب الأولمبية حيث تقام مسابقات بين الأقسام في العدو الريفي والجمباز ومختلف الأنواع الرياضية من كرة السلة واليد والطائرة والركبي….، أليس حريا بالمؤسسات التعليمية بمدينة القصر الكبير أن تستنسخ هذه التجربة الإشعاعية الفريدة؟ ونتيجة لهذا الزخم الثقافي والفني والرياضي برزت داخل المؤسسة عدة مواهب سطع نجمها وطنيا وعربيا في مجالات ثقافية وفنية ورياضية.
لم أشعر بالغربة قط كما أشعرها الآن عزيزتي مادلين، يقال أن السمك في سفره الأخير يحن الرجوع إلى وطنه الأول حيث الإحساس بالأمان… وإعدادية المنصور الذهبي كانت تمنحنا هذا الاعتقاد …. أتذكر أنه قد مرت على مديتنا أوقات عصيبة أثناء الإضرابات التي اجتاحت الكثير من مدن المغرب حين نزل الجيش إلى الشوارع وتم اعتقال الكثير من المناضلين والحقوقين، لقد شاركنا ونحن تلاميذ في هذه الإضرابات وشعرنا يومها بالخوف والذعر حينما حلت بمؤسستنا لجنة أعتقد أنها كانت تتشكل من عامل الإقليم وبعض الشخصيات الأمنية الرفيعة وطُلب منا أن نشكل لجينة تضم نخبة من التلاميذ لطرح ملفنا المطلبي، كان التحدي الأكبر الذي واجه هؤلاء التلاميذ هو من سيتكلف بالحديث أمام اللجنة الأمنية؟ ونحن في هذا الارتباك والتردد تقدم السيد المدير سي حسن بنجلون وصار يتحدث نيابة عنا ويتبنى كل مطالبنا الصغيرة بحماس، شعرنا بالفرحة والأمان في نفس الوقت وتحررنا من الخوف وصرنا من غير وعي منا ندافع بشراسة وشجاعة عن ملفنا المطلبي، الإحساس بالأمان عزيزتي مادلين الذي منحه السيد المدير لتلاميذته جعلنا أكثر قوة وثقة بالنفس ….وها أنا أمامك الآن أشبه بتلك السمكة التي تاهت وسط المحيطات تبتغي طريق العودة إلى الأمان المفقود ….
لم أستطع صغيرتي مادلين أن أكبح ضحكتي ذاك الصباح عندما رأيتك من بعيد مسرعة نحوي كنت تحملين في يدك اليمنى ورقة بمجرد أن اقتربت مني حتى صرت تتهجين ما كُتب عليها ” حمو رابي” ، كنت تنطقين حروف العربية بطريقة لذيذة تبعث بالفعل على الضحك، علمت أنك كُلفتِ ببحث حول أول من وضع قانونا مسجلا في التاريخ، ربما أصول حمورابي العربية جعلتك ترغبين في مناقشة هذه الشخصية معي، كنت متحمسة جدا لزيارة متحف اللوفر حيث هناك تعرض بعض نسخ من قانون حمورابي، توقفتِ فجأة عن الحديث وكأنك تفكرين في أمر جلل وقلت مستفهمة: ” هل القانون عند حمورابي مقدسا؟ وهل القانون بصفة عامة يسمو على كل القيم والأعراف والمعاملات؟” ، ابتسمتُ وقلت لك: “بالطبع لا، القانون أحيانا يكون أعمى!”.
كان خريف هذه العام حارا جدا وكأن الشمس لم تستوعب بعد أن فصل الصيف قد رحل منذ أكثر من شهر ، كنا في الظهيرة نهرب من هذا الحر إلى أقسام وحجرات الدرس فتبدو المدينة زمن القيلولة فارغة وكأنها تعيش حظرا للتجوال، لاحظتْ والدتي رحمها الله للا حبيبة أن طفلا يافعا لا يغادر ساحة الحي يظل يتسكع هناك، لم تره قط يحمل محفظته ويتوجه إلى المدرسة، ما أشقى طيرا فقد جناحيه فلا يقوى أن يحلق في السماء، الأطفال هم عصافير الله والعلم يمنحهم أجنحة ليحلقوا نحو مستقبل أفضل، هكذا كانت تعتقد للا حبيبة ، اقتربتْ الوالدة من الصبي أكثر فعلمت أنه ولظروف عائلية قاهرة رسب أكثر من مرة لذلك طرد من المدرسة حسب قانون وزارة التعليم وعليه مغادرة حجرة الدرس! ذهبتُ صحبة الوالدة في الصباح الموالي إلى إدارة إعدادية المنصور الذهبي كنت غير متفائل بنتيجة هذه الزيارة فالوزارة هي من أصدر قرار الفصل وليس إدارة الإعدادية ، رغم صعوبة المهمة كانت الوالدة منشرحة الصدر مقبلة على إتمام هذا الأمر بعزيمة وتفاؤل كبيرين، حينما شعرتْ رحمها الله بالإحباط الذي بدا واضحا على تعابير وجهي قالت لي وابتسامة الرضى تشع من نور وجهها : ” من كان الله معه فتحت له كل الأبواب”. وجدنا السيد حسن بنجلون لبقا بشوشا كما عاهدناه دائما ومتعاونا جدا وطلب من الوالدة أن تخبر التلميذ بقرار إعادة تسجليه حتى قبل أن تبث الوزارة في الأمر وعلى التلميذ الحضور غدا إلى حجرة الدرس فيكفي ما أضاع من دروس وحصص. ونحن نغادر الإدارة قالت الوالدة رحمها الله” من يطرق باب سي حسن لا يرد أبدا”.
عزيزتي مادلين وأنت تنجزين بحثك عن حمورابي أول من وضع القانون مسجلا في التاريخ حري بك أن تستوعبي المنطق التي تصرف به السيد المدير: عندما يكون القانون أعمى يليق بنا أن نكون نحن مبصرين.
استمتعي كثيرا عزيزتي مادلين بمدرستك، العمر يمر بسرعة ربما سيأتي عليك يوم يكون فيه أقصى أمانيك أن تعودي من جديد إلى حجرة الدرس في مدرستك القديمة كما هو حالي الآن، آه لو أستطيع أن أعيش من جديد لحظة جلوسي على الطاولة استمتع بنشوة لا مثيل لها إلى أستاذي الأديب سي محمد المودن الذي جعلني أعشق وأهوى الأدب أو أستاذي سي مصطفى شتوان حيث دروس التربية الإسلامية متعة وحياة وليست مجرد مقررات وأستاذي الأنيق سي محمد الحجوي والأستاذ المجد الرايس والأستاذة العزيزة سعاد الطود وأقصو ، البخات ، طلحة، البقالي ، الهبهاب…رحم الله الأموات منهم وبارك الله في عمر الباقي.
هولندا في 16 \12\2021