*أسير أبو غريب*

13 ديسمبر 2021

 

_ ربيعة حميحم

كنت محظوظا للغاية ، فقد استطعت الحصول على عقد عمل مغري ، وبأجر خيالي في العراق الشقيق ، كنت متشوقا لبلاد الرافدين .
وبالفعل أصبحت أسرتي  في بحبوحة من العيش ، تطير بجناحين على أرض مرفهة ، و أصبحت  زوجتي حديث العائلة والكل يهمس لها : هنيئا لك بعمل زوجك الجديد . كانت فرصتي عظيمة  لأزور كل مآثر العراق ، وأستمتع بعبق التاريخ ومهد الحضارات .
لكن ريحا  قوية ، هبت لتقتلعني من جذوري ، وأدفن  تحت أقدام الغزاة . عندما تتحول  النعمة إلى نقمة !!!!! وما كان سبب سعادتك ، يتحول لموتك وهلاكك ، و يصبح قصرك  هو قبرك .
تلاحقت الأحداث بسرعة رهيبة ، واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية ، إقناع العالم  بضرورة  شن حرب على العراق ، لتهديده العالم ، بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل ….. وبدأت طبول الحرب تدق في كل مكان …… وفي 20 مارس 2003  انطلقت العمليات العسكرية “لتحرير العراق “، بأمر من جورج بوش .
كانت عندي فرصة كبيرة للهرب قبل الغزو ، لكن لم يهن علي البلد المضياف ، الذي كان له فضل كبير علي ، وأبيت إلا أن أظل في حماه ،  وأرد الإحسان بالإحسان ، فجميله يطوق عنقي للأبد .
أطلقت صفارات الإنذار ، وانطلقت الحرب بقيادة الولايات المتحدة  وحلفاءها ، لتندلع نار المعارك ، و يحرق هشيمها الأخضر واليابس ، لتتحطم  الروح والنفس قبل الجسد  ، لكن المعركة محسومة  قبل البدأ  ، فهي غير متكافئة فكيف لجيش أن يصمد أمام  أمريكا ، وتحالف أكثر من 30 دولة معها .
عشنا  أياما عصيبة ، تدمرت قلوبنا ، وتهشمت أرواحنا قبل تدمير العراق .
اندلعت المعارك …..  فكانت قوات الأعداء ، تحاصر المدن وتفتك بالمدنيين ، وتستخدم أسلحة محرمة دوليا حتى تحسم الأمر  لصالحها ، فقد استخدمت قنابل نيوترونية في معركة المطار الشهيرة ، فأذيبت جثت المقاتلين العراقيين ، وماتبقى منهم سوى  ساعاتهم ، ولم يعثر على جثثهم . كانت البلد تتهاوى أمامنا ، ونحن ننظر إلى بعضنا البعض نظر المغشي عليه من القهر .
كانت هناك مقاومة باسلة ، تكبد فيها الأمريكيون  والبريطانيون أرواحا  وخسائر عديدة ……. لكن نفط  العراق وآباره  وخيراته يستحق التضحية من أمريكا وابريطانيا ….
وجعي كبير على العراق العظيم ،  لم أستطع حبس دموعي ،  وأنا أشاهد الدبابات الأمريكية تدخل بغداد  يوم 9/ 4 / 2003 وكأنها تدخل عقر داري ، وتنتهك حرمة بيتي …… تمنيت لو مت قبل هذا اليوم ، ولا أشهد سقوط عاصمة الرشيد !!!!!! بسقوطها سقطنا في بحر من الأحزان ، والتشتت ، لحظات حزينة تنفطر لها القلوب، يوم  أسود لن يمحى من الذاكرة إلا بالموت . دموع العين تعكر دجلة والفرات ، أحسست حينها ، أن شرخا كبيرا أصاب الجسم العربي …….  يوم حزين مظلم وكئيب ، وكأن الطير على رؤوسنا ، كان الكل في ذهول وهلع وكأنه كابوس ، الكل يتلمس جسمه وعقله ويصرخ : هل أنا في كامل وعيي ؟؟؟!!!!!!! كان  يوما فارقا في تاريخ بغداد ، فقد دخلها رعاة البقر الأمريكيون ، حاملين شعار الحرية والعدالة ……. وكأنني أشاهد فيلما سينيمائيا هوليوديا ، لا أنكر أن هناك من استقبلوا الجنود الأمريكيين ، بالورود لكنهم أناس بسطاء ، صدقوا الكذبة الأمريكية ،
إذ كيف لحرية أن تأتي على دبابة ، و أن تصب في صالح الشعب . فالمحتل يبقى مغتصبا ، مهما تظاهر بالرحمة والعدل ، فظاهره رحمة وباطنه عذاب أليم .
يا إلهي !!!!!  كيف لهذا الجبل الراسخ  في الأرض منذ آلاف السنين ، أن يصبح بين عشية  وضحاها  تحت الاحتلال  الغاشم ، ويتكالب عليه  الأعداء ، القريب منهم قبل البعيد ، فظلم ذوي القربى أشد مضاضة ……..
لكن هل هذا قدر بغداد ، أن يدنسها دوما أقدام الأوغاد ؟؟؟  استرجعت دروس التاريخ ، فهاهو  يعيد نفسه  في أبشع الصور ، فقد اجتاح  المغول بقيادة  “هولاكو خان ” مدينة بغداد  عاصمة الدولة العباسية ، وحاضرة الخلافة الإسلامية ، وكعبة العلماء آنذاك ، فسقطت سنة 1258 ، بعد حصار  شديد للمدينة المنكوبة ، ليدخلها  وحوش التاتار ، ليعيثوا فيها  فسادا  ودمارا ، لا قلب لهم ولا رحمة ، كانت الميادين تسيل  بالدماء ، أما الهاربون فيلاحقون ، فيذبحون فتسيل دماؤهم الطاهرة   على الأرض ، حتى بلغ عدد القتلى مليون قتيل  .
تمكن  الحزن من قلوب المسلمين آنذاك  بعد الغزو المغولي ، فقد دمرت المكتبة الكبيرة ببغداد ، والتي كانت تزخر بوثائق تاريخية ثمينة ، وكتب علمية في الطب ، وعلم الفلك ، وكانت مياه دجلة شاهدة  ، على أكبر مذبحة للعلم والعلماء ، وأصبحت مياهه سوداء لكمية الحبر الهائلة من الكتب الملقاة فيه ……… وأحرقت المكتبات ، ونهبت القصور والمساجد ، وكان نهر دجلة شاهدا  على أكبر مذبحة للعلم والعلماء ، وعامت الكتب  الثمينة على سطحه . ومات الخليفة بعد أسره وتعذيبه ، وطويت صفحة ذهبية دامت نحو خمسة قرون من الازدهار ، وظلت المدينة خاوية على عروشها لعدة سنين .
لكن ما أشبه الليلة  بالبارحة ، وها قد سقطت بغداد حبيبتي  مرة أخرى ، صريعة تتلوى من الألم ، وعم الحزن والخيبة الشارع العربي ، وانتفض برمته معبرا عن استياءه الشديد  وحزنه العميق .
كانت  أسوء فترة عشتها  في حياتي ، كانت أشبه بالحلم ، فترة  كئيبة ، اسودت الدنيا في وجهي ، وأصبحت كالمجنون ، أيام كأنها الدهر ، رأيت أهوالا  ، وانفطرت قلوبنا  من الحزن ، أصبحت كالبركان أفيض غيظا …..يخنقني دخان الحرب  ويعميني ، ضاق صدري ولم أعد أتحمل ، فقررت العودة لبلادي ، فللبيت رب يحميه ، وأهل العراق أولى بمحاربة الأعداء ، جئته ساعيا للرزق ، وقد فتح لي ذراعيه وارتشفت من خيراته شهدا ، لم أحس أبدا بغربة كنت في بلدي الثاني . لكنني عزمت الرحيل  وبأية طريقة ، لكن كيف السبيل؟؟!! كل  المدن ملغمة ، والدبابات منتشرة في كل مكان ، وحملات أمنية ، واعتقالات بالجملة ومداهمات ليلية ……. ولا يسلم أحد من الاعتقال ، لكنني لم أيأس لابد أن أعود لبلدي ، انتابني إحساس رهيب  بالغربة ، وعدم الأمان ، وكأن البلد أصبحت للأمريكيين والأجانب ولم يعد لي مكان فيها . فلا أمن ولا أمان ولا حرية بعد اليوم ، فقد أصبح حاميها أو من يدعي ذلك هو حراميها . لكن سؤالا قض مضجعي ، مالذي جعل أمريكا تجيش الجيوش وتعد العدة ، وتستنفر العالم  وتقطع المسافات ، وتجهز الأساطيل ؟؟ هل كل هذا من أجل سواد عيون  العراق؟؟؟!!!
انكشفت اللعبة وظهرت الحقيقة ، وسقطت أوراق التوت ، وكشفت أمريكا  عن وجهها المقيت ، وأغراضها الدنيئة . وطمعها بثروات العراق .
اتصلت بأناس ، وعدوني بتهريبي خارج البلاد ، نفذت كل شروطهم ، وأعطيتهم كل ما أملك ، كان كل همي ان يلتم شملي مع أبنائي .
قررت الرحيل ، فللبيت رب يحميه ، وللعراق رجاله الأبطال  النشامى البواسل ……….
وجاء يوم  الحسم ، خرجت صباح ذلك اليوم المشؤوم ، كنت برفقة أحد معارفي ، وكان سيأخذني بسيارته ، لكننا  أوقفنا من طرف جنود أمريكيين ، طلبوا منا النزول ، وبدأوا  بتفتيش السيارة ، كنت مضطربا جدا جدا ، وكارها الموضوع كله ، كانوا يتعاملون  معنا  بوحشية ، طلبوا  منا النزول على أرجلنا ورفع أيدينا فوق  ، شعرت بالذل والقهر ، حاول رفيقي الاعتراض ، وعبر عن امتعاضه ،  فوجئت بركلة قوية على وجهه ،  لم يستحمل الإهانة فانقض على الجندي الامريكي كالأسد الجسور ، ليصفعه بالمثل ، لكن للأسف اجتمعت عليه الذئاب ، لترديه قتيلا في دمه ، لم أتحمل ذلك المنظر وبدأت أصيح  بهستيرية  Go back ، Go back  أخرجوا من هنا أيها الاوغاد
أخرجوا  أيها الجبناء ،  كنت اقولها بالإنجليزية ، ليأتي دوري وآخذ نصيبي  من الركلات …… فقدت وعيي ، لأستفيق في مكان  عجيب  غريب  ، إنه سجن أبوغريب ، هذا السجن الغريب ، الذي وضعت أمريكا يدها عليه بعد غزوها للعراق .
سحبت من  رقبتي  بسلسلة ، كان وجهي مغطى بكيس ، كنت أسمع أصوات استغاثة ، وكلابا  تعوي ، وأشم رائحة الموت  في كل مكان ، كان هناك  آلاف الضحايا ، الذين اقتيدوا إلى السجن ، وعوملوا  بوحشية دون تهمة أو ذنب …..  هؤلاء الأمريكيون الذين جاؤوا رافعين  شعار الحرية، وحقوق الإنسان ، ليكشفو عن نواياهم  الحقيقية وأغراضهم الدنيئة ، وليجسدو  القبح والظلم  ، والشر في أبشع صوره .
أطلق العنان للمحققين ، لفعل كل ما يحلو لهم من فظائع ، وترك  لهم الحبل على الغارب ، فالمسجونون هم أعداء حقيقيون للاحتلال ، ولابد أن يعترفوا على أنفسهم  وعلى  الآخرين ، كان السجانون  يتفننون في إذلال السجناء ، ذقنا  وبال التعذيب ، بقيت مربوطا لأيام عديدة على باب الزنزانة ، وأنا مجرد من الملابس ، طلبو مني خلع ملابسي بالكامل ، فلما رفضت نزعوها عنوة ، ووضعوا الأغلال في يدي ورجلي وغطوا رأسي ،
ناهيك عن الصعق الكهربائي ، في مناطق متفرقة ، وحساسة من جسمي ، أما الإذلال النفسي ، والتحرش ، وممارسات سادية  فهي من أهم بنود سجن أبوغريب .
تبعثرت كرامتي أشلاءا ،
بقيت عاريا من ملابسي ، لأيام  عديدة ، لكي يمنوا علي ببطانية  تسترني ، رأيت فظائع وأهوالا ، وانتهاكات صارخة  لكل الأعراف ، والمواثيق الدولية ، شيئ  مفجع جدا ، و لا يخطر على بال بشر ، لم ترحم النساء ولا الأطفال ، الذين كانوا  يستخدمون ورقة ضغط على أهاليهم ، أغلب الوقت وجوهنا مغطاة بكيس ، لم يسلم الاطفال القصر الأبرياء من الاعتقال ولا الشيوخ …….
كانوا  يتفننون في التعذيب ، بطرق لا تخطر على بال بشر ، كان هناك معتقلون تهمتهم النظر بازدراء للجنود الأمريكيين ، أو كراهيتهم  !!!!!!!!!! كنا نسحب بسلاسل مربوطة ، في الرقبة واليدين في ممر كبير ،  ولا نسمع سوى أصوات وصرخات ، لأناس تتعذب …….. كانوا يحبسون أشخاصا بثوابيث لأيام عديدة ، يتنفسون من فتحات صغيرة فقط . شهدت  اعتقال  إمام مسجد كبير ، شيخ في الثمانين من عمره ، كان يحرض العراقيين ، ويحمسهم للمقاومة وطرد  الأمريكيين ، جيء به مع أفراد أسرته ، ليلبسوه مايوه بيكيني ، في مشهد تندى له جبين البشرية ، كان الممر مملوءا بالماء ومكهربا ، مايجعل الشيخ الجليل يبدو وكأنه يرقص على أنغام موسيقى صاخبة ، كل هذا  وهم يتضاحكون . جحيم حقيقي ، لا نوم ولا راحة أبدا …… كانت عندهم أوامر أن لا ينام السجناء . كان معي أطر وكوادر من خيرة الشعب العراقي ، علماء وقضاة وخبراء ، ثم الزج بهم داخل معسكرات التعذيب ، تهمتهم  حب الوطن ، وعشق ترابه  ، ومقت الأمريكيين الغزاة المحتلين . كانوا يساومونهم  على الحرية ، والعمل كجواسيس مقابل امتيازات كبيرة ، أو التنكيل بهم …… لكنهم كانوا يختارون طريق الشجعان ، الأحرار البواسل ، ويفضلون المكوث في الأسر  بدل خيانة الوطن ، فهم ليسوا للبيع ، لايشترون بل يقدمون أرواحهم فداءا لوطنهم الغالي  …..  قد يضعف الإنسان لكنه لا يستسلم ولا يخون . كنت أشك أن هؤلاء الجلادون بشر مثلنا ، يحسون كما نحس ……. هم ليسوا ببشر هم وحوش  ، بل شياطين حقيقيين ، يعشقون ويتلذذون بعذاب الآخرين .
بدأت رائحة أبو غريب تزكم الأنوف ، وتملأ رائحتها الكريهة الدنيا ، لكن لم يستطع أحد فعل شيئ . ولأن ليل الظلم قصير ، فلا بد لفجر الحرية ان ينبثق وينزاح الظلم ….. أخلي سبيلي وخرجت  من سجني ، بعد تسعة أشهر من العذاب ، بعد أن تغدت الغربان على لحمي ، ومصت عظامي ، حاولت مداواة جروحي الجسدية ، لكن جروح النفس غائرة  مميتة  لا يمكن مداواتها  …….
خرجت مهزوما مطأطا الرأس ، مهشم النفس ، أحمل أوزارا كبيرة ، أحسست  أنني ميت ، وأمشي  في جنازتي ، كنت ميتا لم يحن أجله بعد .
نعم  خرجت جسدا بلا روح ، كم تمنيت الموت في سجني ،  بدل موتي كل دقيقة على يد أوغاد محتلين ، لا قلب لهم  ولا رحمة ، الغريب أنهم كانو يأخذون صورا مع المعتقلين ، كيف لهم أن يتجردوا من إنسانيتهم إلى هذه  الدرجة
صور وهم يضحكون ، صور لأناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم ، صور  مهينة ودماء على الأرض ، لأناس مكبلين بأغلال و لا حول لهم ولا قوة . رأيت أبطالا يعلقون لمدة أيام أمام أطفالهم لحد الموت  …… كثيرون كانو يحاولون الانتحار ، بضرب رؤوسهم  في الزنازن الحديدية  ، حتى يرتاحوا  من ويلات التعذيب والمهانة .
والآن وبعد أن تأكد العالم ، أن بوش وبلير هما مجرمي حرب ، وان الحرب لم تكن من أجل أسلحة الدمار الشامل ، ولم تكن من أجل محاربة الإرهاب ، لماذا لا يحصل العراق على تعويضات ، عن تدمير البلد وقتل وأسر الآلاف ، وتدمير لنفسية الأطفال ، الذين انتهكت آدميتهم ، واغتصبت طفولتهم  في سجون الاحتلال ، وشبوا على الحرب والرعب ، ناهيك عن آلاف اللاجئين في مختلف الدول ، شأنها في ذلك شأن إسرائيل التي تستنزف المليارات ، من ألمانيا لضحايا الهولوكست في معسكرات النازيين ، لكن للأسف الشديد ، فالعالم  يحكم من طرف عصابة من المجرمين ،  تسوغ جرائمهم المنظمات الدولية .
لكن الجرح مازال  غائرا يدمي ، والسوط يلهب ظهور العراقيين ، لكن الأشجار تموت واقفة ، ولانامت أعين الجبناء .
واأسفي  على بغداد ، واحسرتاه على بلاد الرافدين ، لكن الفلوجة والرمادي  وغيرها  من المدن ، كتبت أسماؤها بدماء شهداؤها ، لتروي بطولات ومعارك ضارية ، فكانت مقابر للأعداء ، ذاقوا فيها الويلات لتعطي دروسا في البسالة .
وليبقى سجن أبو غريب وصمة عار في جبين الولايات المتحدة .
نعم دخلت  بغداد ، وأنا في أوج  صحتي ، وتوهجي وعطائي ، لكني  عدت  مثقلا  بويلات الهزيمة ، والرعب والإحباط . استقبلت استقبال الأبطال ، وحملت على الأعناق ، كان عيدا لأسرتي بعد أن فقدوا الأمل برجوعي ، لانقطاع أخباري عنهم ، لكنني عدت ، ولم أعد فقد عدت  لهم جسدا بلا روح ، روحي  ماتت من القهر  هناك ، ماتت  يوم ماتت كرامتي.
عدت خيال مآتة ، عاد الطير لعشه مكسور الجناح ، جريح يئن من الألم والقهر ……..  عدت  وجسدي ضعيف ، لا يقوى على حملي ، عدت غريب النفس والروح ، مثقلا بالهموم  لا أملك شيئا سوى ملابس تسترني ، ملابس عرفت قيمتها في سجن أبو غريب ، فليس هناك أغلى من ملابس  تسترك ، وتواري سوأتك  …….. كان كل عضو في جسدي ،  ينطق ألما ويحكي قصة ، كنت أرغب بالبكاء ، أو بالعويل ، سكن الحزن قلبي وتربع  فيه ، خاصمني النوم وجافاني وإذا نمت أصحى على كوابيسي المرعبة ، أشباح أبو غريب تلاحقني لا أرى سوى وجوه السجانين تطاردني ، وتريد خنقي ، ذكريات أليمة ، في منامي و في سهادي ….. يملأ  صراخي البيت كله ، صرخة مكلوم لا يعلم وجعه  إلا الله . حاولت  نسيان  ماجرى ، فلم أفلح ، فعقلي  ظل  سجين  أبو غريب ، فقد سكنت روحه الملعونة جسدي  العليل ، وحولت حياتي الى  جحيم  وتعاسة. بكت جدران  بيتي من أنيني ، وأسمعت آهاتي من به صمم  من الأحياء والأموات ، فقدت نفسي ، و سجنتها  داخل غرفتي ، قفصي الجديد ، وقبري  لكن هذه المرة كانت بمحض إرادتي ، كنت أقف في شرفة  نافذتي ، وأمسك بقضبانها  لساعات طويلة حتى  أغفو أو أنام ……أصبحت غرفتي تابوتا مستديما لي ، سأعيش رغما عن أنفي ، بعد أن سئمت حياتي وزهدتها ……. أوصيت أبنائي  اذا سأل أحدهم  عني  قولوا  له أنني:
لازلت  أسيرا في  أبو غريب ، وغريبا في بيتي .

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading