
بقلم : لبيب المسعدي
البدايات الأولى، مع حذف بعد التفاصيل الشخصية.
أتمنى قراءة ممتعة للجميع
كنت في السادسة والعشرين من عمري، متزوج وأب لطفلين، وقفت أخيرا على عتبة الحلم وقررت. ثم قدمت استقالتي من مصنع “Peugeot Citron “، حيث كانت أيامي تفوح برائحة الزيت والمعادن وجهل العمال ورؤساء الفرق، لأخطو نحو عالم من الأسفلت والأضواء والتاريخ، نحو الحرية. بتشجيع من la mission locale, تلك المؤسسة الحكومية التي تمد جسر الأمل للشباب. وجدت نفسي أملأ أوراق التسجيل في مدرسة “Duval ” لتعليم مهنيي سيارات الأجرة في باريس.
كنت آنذاك أقطن في مدينة Vernouillet، كانت الرحلة من تلك البلدة الصغيرة على مشارف نورماندي إلى قلب العاصمة الفرنسية ك، رحلة في الزمن والمكان. 86 كيلومتراً كانت تفصل بين عالمين: عالم الهدوء العائلي حيث زوجتي وأطفالي الصغار, نيرمين ذات الخمس سنوات وفاضل ذو الثلاث. وعالم باريس الصاخب الذي كان علي أن أصبح خبيرا في تفاصيله. كنت أغادر البيت قبل الفجر، كي أستقل قطار السادسة صباحاً متجهاً إلى محطة Montparnasse. كنت أكلم أبي كل صباح في المغرب لأسمع ضحكته ودعاء أمي التي بالكاد انتهت من صلاة الفجر، ولم أكن أعلم أن الأقدار ستختطف أبي مني بعد بضعة أشهر فقط.
كانت المدرسة في أقصى الدائرة الخامسة عشرة.
في اليوم الأول، استسلمت لمترو الأنفاق مثل أي غريب. قابلنا المدرس.. رجل فرنسي في سن التقاعد، عيناه تحكيان آلاف القصص من سنوات طويلة خلف عجلة القيادة. تحدث بفخر عن سنواته كسائق خاص للراحل Serge Gainsbourg و Jonny Haliday وآخرين من نجوم الشاشتين. أما السيدة دولوريس، زوجته ذات الأصول الإسبانية، فقد رحبت بي بلطف يذيب خوف الغرباء.
بعد جولة التعارف، بدأ الدرس الحقيقي. طرح المدرس أسئلة تبدو بسيطة لمن يعيش عشوائية باريس المنظمة :
· ما هو أقصر طريق من ساحة الكونكورد إلى الحي اللاتيني مع تجنب الزحام صباحاً؟
· أين يقع مقهى دي فلور الذي يحتفظ بزاوية خاصة لجان بول سارتر وزوجته سيمون دي بوفوار؟
· ما لون واجهة مسرح أولمبيا؟
كان الزملاء، ومعظمهم باريسيون، يردون بسرعة ودقة. شعرت حينها بأنني غريب، وغمرني إحباط ممزوج بغبطة صامتة. قلت في نفسي: لو سألني أحدهم عن زاوية في مدينتي الام القصر الكبير، لأمكنني وصف واجهة صيدلية ‘صباح’، أو عدد كراسي مقهى ‘نوميديا’، بل وحتى عادات زبائن مقهى ‘أوسلو’… لكن العين بصيرة واليد قصيرة هنا.
عدت إلى منزلي في نهاية اليوم، وبينما كانت نيرمين وفاضل يغطان في نومهما الهادئ، اتخذت قراري: يجب أن أتعلم الغوص في احشاء مدينة باريس كما تعلمت طرق مدينتي. لا مجال للتراجع.
في اليوم التالي، ركبت قطارا أبكر. وصلت مونبارناس قبل شروق الشمس الباريسية الباهتة في أواخر الشتاء. وبدلا من المترو، مشيت على الأقدام إلى المدرسة، خريطة مطوية بيدي، عيناي تلتقطان أسماء الشوارع، تتتبعان تحولات الأحياء. خطوة خطوة، بدأت عاصمة الجن والملائكة كما وصفا طه حسين، باريس السرية تنفتح لي.
وفي الأسبوع التالي، ولتحقيق استقلاليتي، اشتريت دراجة هوائية مستعملة ( والله أعلم) من جار جزائري طيب القلب مقابل 20 يورو فقط. أصبحت تلك الدراجة سفينتي في محيط باريس. كنت أربطها قبالة محطة مترو “مستشفى الأطفال” في الدائرة 15، على حافة الدائرة السادسة Rue cherche midi حيث مازلت تلمع ذكريات أخرى: المنزل الذي ترعرع فيه شارل أزنافور، والمطعم المتواضع الذي غنى فيه مع شقيقته عايدة عازفة البيانو في بداية مشوارهما قبل وبعد الحرب العالمية الثانية .
وبتغيير المسارات كل يوم، اكتشفت أن أسماء شوارع باريس ليست مجرد دلائل، بل هي دروس في التاريخ: فالشوارع والأزقة والساحات والميادين أخذت أسماء مشاهير العلوم والفن والسياسة والحروب الكبرى. كنت أردد الأسماء وأنا أتخيل المعارك والشخصيات. فتحول حبي للتاريخ من المهمة الشاقة إلى مغامرة يومية، وشوقي أصبح يطلب المزيد والمزيد.
مرت الأسابيع والشهور، والتهمت بشراسة كل حرف في الكتب التي قدمت لي، آلالاف العناوين، مئات المسارات، ومئات المواد القانونية الخاصة بميدان مهنة نقل الأفراد عبر سيارات الأجرة.
ثم جاء الامتحان الكتابي، الذي كان ينظم في قاعة عملاقة قرب مطار أورلي، وسوق رانجيس اكبر سوق جملة في أوروبا. جمع حوالي ألفي متبار من كل أنحاء فرنسا. وضعت الأوراق أمامي فتناولتها بنهم، كأنني أنتقم من كل الظروف الصعبة والعقبات التي صمدت في وجهها في تلك الحقبة السوداء من حياتي، وكنت أول الناجحين.
بعد أقل من أسبوعين، جاء موعد الامتحانات المحلية الخاصة بباريس وضواحيها، وهي من أصعب امتحانات سائقي سيارات الأجرة في العالم. بعد مدينة لندن. وكنت أيضا من المتفوقين.
وبعد أسبوع، جاء موعد الامتحان التطبيقي، الذي تشرف عليه وزارة الداخلية الفرنسية شخصياً، حيث يقوم المتدرب بتوصيل مفتش شرطة وموظفين من قسم المواصلات في محاكاة واقعية لرحلة بأجرة. بعد تبادل التحية والتأكد من هويتي، مدت لي مفتشة الشرطة ثلاثة أظرفة وطلبت مني أن أختار. فتحت الظرف الأوسط فإذا بي أمام “Rue du bac “، غير بعيد عن مكان الانطلاق. لكن الموظف في المقعد الخلفي طلب مني أن اسلك مسارا أطول عبر نهر السين، مسار غير منطقي وأبعد. ولكن ماذا يفعل المحكوم أمام جلاده؟
انطلقت نحو نهر السين عبر شارع مونبارناس ومستشفى معطوبي الحرب، وفي الطريق بدأوا يطرحون وابلاً من الأسئلة عن البنايات العتيقة وتواريخها، فكنت لهم بالمرصاد: من قبر نابليون وتاريخ وفاته، مروراً بوزارة الخارجية والبرلمان وشارع سان جيرمان، وحتى مقهى ومطمع Lipp حيث شوهد المغربي الراحل المهدي بن بركة حيا لآخر مرة. إلا أنني نسيت اللحظة المناسبة للانعطاف يسارا إلى Rue du Bac.
اعتذرت للسلطات واقترحت مساراً آخرا لكن المفتشة الشقراء طلبت مني العودة من حيث انطلقنا. فزاد ارتباكي وشكي في نتيجة الامتحان. و عند وصولنا سالمين إلى ساحة الإنطلاقة، نظرت الي مبتسمة قائلة: félicitations Monsieur, bienvenue dans ce monde
اليوم، وأنا أجوب شوارع باريس، أتذكر دائماً ذلك الشاب القادم من مدينة مغربية آيلة للسقوط ومن بلدة مهمشة على حافة النورماندي، الحامل هموم عائلة وأحلام أب، الذي قرر يوما أن يتعلم لغة المدينة الحجرية. كانت مدرسة “Duval” محطتي الأولى، حيث تعلمت أن سر هذه المهنة ليس في معرفة الطرق فقط، بل في فهم نبض المدينة، وسماع دقات قلبها الخفية بين زحمة الدوائر العشرين.
باريس يا سادة لا تعطى مجانا، ولكنها، تهب نفسها كعاهرة لمن يفتش عنها بقلب صادق، مثلها كمثل برج إيفل، امراة حديدية فاتحة فخذيها، لتمنح مفاتيحها واحدة تلو الأخرى.