اليُتْم الثقافي في القصر الكبير

30 أكتوبر 2025

ذة. أمينة بنونة

تعيش مدينة القصر الكبير اليوم أزمة ثقافية عميقة بعد أن كانت فضاء نابضا بالإبداع والفكر والفنون. هذا التدهور يعكس تراكم الإهمال المؤسسي الطويل الأمد من وزارة الثقافة وضعف أداء المجلس الجماعي في إدارة الشأن الثقافي المحلي، ونتج عن ذلك عزلة ثقافية خانقة بعد أن كانت المدينة منارة للمبدعين والفنانين والشعراء والكتاب.
المساحات الثقافية والخضراء، التي كانت حاضنة للإبداع والفكر، شهدت تراجعا ملموسا على المستويين الرمزي والمادي. المركز الثقافي البلدي يعاني الإهمال التام، وحديقة عبد السلام عامر فقدت جزءا كبيرا من مساحتها، وتعرض المجال الأخضر للتدمير التدريجي، بينما حديقة السويقة تعيش حالة تدهور واضحة بعد أن كانت فضاء لعائلات المدينة في الأعياد والمناسبات، كما تشهد صور الأرشيف التاريخي. دار الثقافة محمد الخمار الكنوني، التي أصبحت الرمز التاريخي للهوية الثقافية، أُغلقت تاركة فراغا كبيرا في الذاكرة الجماعية. هذا الانحدار أوقف تدفق الأنشطة الفنية والأدبية والفكرية الجادة، وأدخل المدينة في حالة من الشلل الثقافي المستمر، رغم وعود مؤجلة بتكملة مشروع مركب عبد السلام عامر الثقافي، وهي وعود لم تتحقق منذ سنوات.
تواجه المدينة اليوم على امتداد مساحتها نقصا حادا في البنية التحتية الثقافية، إذ لا توجد قاعات مجهزة للعروض الفنية أو الندوات الفكرية، وانشطة الشباب، وتفتقر القاعة الكبرى المجاورة لمقر المجلس الجماعي إلى الأساسيات اللازمة لممارسة الفعل الثقافي، بما في ذلك مرافق وولوجيات ذوي الاحتياجات الخاصة. غياب هذه التهيئات يمنع مشاركة شريحة واسعة من المجتمع في الحياة الثقافية، فضلا عن غياب كلي لفضاءات الإبداع المبكر للأطفال. ينتج عن ذلك ضعف الإنتاج الإبداعي المحلي ويحد من تطوير القدرات الفنية والفكرية للأجيال الجديدة والصاعدة.
هذا الواقع يتناقض مع المبادئ الدستورية التي تكرس أهمية الثقافة في المغرب. الفصل الخامس يضمن حماية التراث الثقافي واللغتين العربية والأمازيغية، ويؤكد الفصل الخامس والعشرون حرية الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي، بينما يفرض الفصل السادس والعشرون على السلطات العمومية دعم الإبداع الثقافي والفني وفق أسس مهنية وديمقراطية.
ورغم هذه المعوقات، يواصل الفاعلون الثقافيون والمدنيون تنظيم أنشطة إبداعية وفنية في فضاءات بديلة، مثل القاعات الخاصة والفنادق، اعتمادًا على المبادرات الذاتية في ظل غياب رؤية مؤسساتية واضحة. وللأسف، المعارض والمهرجانات التي كانت تضخ الحياة الثقافية في المدينة شهدت تراجعا أو تحولت إلى “حفلات هجينة شبيهة بالأعراس” وإلى شعارات انتخابية، وهو أمر يعكس ضعف الوعي السياسي بأهمية الثقافة كرافعة للإبداع والفكر والفنون وعنصر أساسي في بناء الإنسان والمجتمع.
ما يعانيه القصر الكبير يعكس أزمة في الوعي السياسي لدى المسؤولين بأهمية الثقافة كرافعة للإبداع والفكر والفنون وعنصر أساسي في بناء الإنسان والمجتمع. الثقافة كما يقول مؤرخ المدينة الأستاذ محمد أخريف هي روح المدينة وهويتها، ومع غيابها تضيع الذاكرة وينسى تاريخ المنطقة بكل ثرائه وتنوعه.
لكِ الله يا مدينتي، يا ذاكرة النبوغ المغربي.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading