صرخة من القصر الكبير، وجرح لن يندمل إلا بعودة التعليم الأصيل.

22 أكتوبر 2025

ذ : محمد الشدادي

حين قرأت رسالة الدكتور خالد الصمدي، الموجهة إلى السيد وزير التربية الوطنية، شعرت وكأنها تترجم ما يعتمر في صدري، وفي صدر غالبية ساكنة مدينة القصر الكبير. رسالة حملت وجعا تربويا، وغيرة على هوية تعليمية بدأت تتلاشى في صمت، رغم أنها كانت يوما
منارة للعلم والتكوين القيمي العميق. لقد تحدث الدكتور الصمدي عن انقراض التعليم الأصيل في عدد من المؤسسات بجهة طنجة تطوان الحسيمة، وعلى رأسها ثانوية وادي المخازن للتعليم الأصيل بالقصر الكبير، التي لم تعد تحمل من التعليم الأصيل سوى الاسم. وأنا، كأحد أبناء هذه المؤسسة، لا أستطيع أن أصف حجم الأسى الذي يصيبني كلما مررت بجوارها، ورأيت كيف تم إقبار هذا النوع من التعليم الذي كان يخرج جيلا يوازن بين المعارف الشرعية والعلوم الحديثة.

( بين القانون والواقع، مفارقة مؤلمة)
القانون الإطار 17-51 ينص بوضوح على أن التعليم الأصيل جزء لا يتجزأ من المنظومة التربوية. و الرؤية الاستراتيجية تؤكد نفس المقتضى. لكن الواقع يكذب النصوص، ويظهر أن بعض الأكاديميات الجهوية تسير في اتجاه معاكس، بإغلاق المؤسسات العريقة وتحويلها إلى تعليم عام، دون مراعاة لخصوصية هذا المسلك.
فمن القصر الكبير إلى العرائش وتطوان، نزيف مستمر، فثانوية وادي المخازن، ماء العينين، القاضي عياض…كلها مؤسسات كانت تحمل راية التعليم الأصيل، واليوم تواجه مصيرا واحدا إقبار التعليم الأصيل بها. هذا النزيف لا يهدد فقط المؤسسات، بل يهدد رؤية تربوية متكاملة، ويقصي آلاف التلاميذ من خيار تعليمي كان يشكل لهم الأمل والهوية.

( أقلام صرخت، لكن من ينصت؟ )
وكم من الأقلام صرخت منذ بداية لف الحبل على عنق هذا النوع من التعليم، أقلام نزيهة ومخلصة مثل الدكتور خالد الصمدي، والدكتور محمد البدوي، وعبد ربه، وأسماء التمالح، وغيرهم من الغيورين الذين دقوا ناقوس الخطر مبكرا، حين بدأت خطة حذف مستويات التعليم الأصيل سنة بعد سنة.
لقد كان التعامل لإقبار هذا التعليم كما ينتزع النفس الأخير من الجسد، حيث تبدأ خروج الروح من الأرجل وتنتهي بالفم.
كانت البداية بحذف مستويات الإعدادي تدريجيا، ثم الانتقال إلى مستويات التأهيلي، وفي السنة الفارطة تم إقبار مستوى ثانية باكلوريا بصفة نهائية، وكأنهم يطفئون شمعة كانت تنير طريقا مختلفا في التربية والتعليم.

( شهادة البدوي، حين بكى التعليم كما يبكى الأحبة)
في مقال مؤلم، كتب الدكتور محمد البدوي من قلب الفصل، لا من خلف المكاتب، وهو يودع آخر فوج درسه في ثانوية وادي المخازن.
لم تكن كلماته مجرد رثاء، بل كانت بكاء صادقا على التعليم الأصيل، حين قال: “كنت هذه السنة أنتظر نقطة الصفر، أنتظر الصاعقة، أنتظر موت التعليم الأصيل في مؤسسة اسمها ثانوية وادي المخازن، كنت شاهدا على احتضار تخصص العلوم الشرعية في مدينة القصر الكبير، بل وحتى في المديرية الإقليمية للعرائش.”
وقد عبر عن لحظة الوداع كما تودع الأرواح، حين ربط وفاة مدير المؤسسة الراحل، السيد محمد أشروي، بجنازة التعليم الأصيل، فقال: “وأنا أتأمل وجهه وأنظر إلى جثته هامدة في اللحد، طار بي الخيال إلى تشييع جنازة التعليم الأصيل في مؤسستي.”

( وجعي أنا، وأنا أراه يحتضر)
أنا لست من خريجي التعليم الأصيل، بل درست في نفس المؤسسة ضمن التعليم العام.
لكنني كنت شاهدا على مجد هذا المسلك، وعلى وهجه الذي كان يضيء القلوب قبل الأقسام.
رأيت كيف كانت ثانوية وادي المخازن تحتضن حفظة كتاب الله، وكيف كانت لجنة الاختبار تقيمهم بعناية، وتحدد مستواهم وتوجههم بمسؤولية.
رأيت كيف كان الأساتذة يدرسون التفسير والفقه والحديث والأصول واللغة العربية ، لا كمواد جامدة، بل كقيم حية تغذي العقل والروح.
واليوم، وأنا أرى هذا التعليم يحتضر أمامي، أشعر أنني أُشيع جنازة جزء من هوية مدينتي، ومن ذاكرة تربوية كانت تشكل مصدر فخر لنا جميعا، حتى لمن لم يدرس فيها مباشرة.

( مفارقة التوجيه، من يقصي من؟)
الغريب أن الشعب الجديدة المهنية والرياضية والموسيقية ما أن تفتح حتى تملأ أقسامها بالتلاميذ وتتحرك الجمعيات والموجهون والإداريون، ويوجه إليها التلاميذ، وهي شعب تزيد من تأتيث فضاءاتنا التربوية، والتي دعت الضرورة لفتحها قصد مواكبة مستجدات العصر، بينما التعليم الأصيل يترك لمصيره، هذا التعليم الذي قال في حقه الحجوي:” اضطلع التعليم الأصيل بدور هام في المحافظة على أصالة أمتنا، وفي تحصينها ضد المبادئ الاستعمارية الهدامة، ومساعدتها على ضمان تماسكها وترابطها ووحدتها “.
علما ان الحل بسيط، لو تم توجيه ثلاثة أو أربعة تلاميذ فقط من كل مؤسسة ابتدائية، وتم السماح لحفظة كتاب الله الالتحاق به كما كان معمولا به، لما انقرض هذا النوع من التعليم من المؤسسات التي كانت تحتضنه، لكننا جميعا تركنا التعليم الأصيل يذبل بصمت، دون دعم، دون توجيه، ودون رؤية..

(التعليم الأصيل، حصن الهوية في زمن الاستيلاب )
في مقالها العميق، تذكرنا الإعلامية أسماء التمالح بأن التعليم الأصيل ليس مجرد تخصص، بل هو درع حضاري، يحمي الهوية من الذوبان، ويحصن المجتمع من الانزلاق نحو التيه الثقافي. تقول: فهل من عودة للتعليم الأصيل بين إخوانه من صنوف التعليم الأخرى؟ وهل من غيورين مدافعين مطالبين ببقائه؟ علما أن اغتياله هو اغتيال لقيم نبيلة ومبادئ سامية، كثيرا ما كان لها دور بارز في حماية مجتمعاتنا من كثرة الانزلاقات التي تقود إلى الشرك والكفر أحيانا، وإلى الإلحاد أحيانا أخرى.”
(نداء من مدينة القصر الكبير إلى السيد وزير التربية
الوطنية من أجل إنقاذ التعليم الأصيل وإعادة الروح إلى ثانوية وادي المخازن)
السيد الوزير المحترم،
لقد تابعنا باهتمام كبير جوابكم على سؤال برلماني حول دور المدرسة في تربية الناشئة على الصلاة، وهو موقف يعبر عن حرصكم على تعزيز البعد الروحي والأخلاقي في المدرسة المغربية، ويؤكد أن التربية على القيم الدينية تشكل أحد الأهداف الجوهرية لوزارتكم،
لكننا، نحن أبناء مدينة القصر الكبير، نرى أن هذا التوجه لا يكتمل إلا بإعادة الاعتبار لمسلك التعليم الأصيل، الذي كان وما يزال الفضاء الطبيعي لترسيخ هذه القيم، وتكوين جيل متوازن يسقى من غيث المعارف الدينية والعلوم الحديثة.
إن ثانوية وادي المخازن للتعليم الأصيل، التي كانت منارة علمية وروحية لعقود، أصبحت اليوم مجرد اسم بلا مضمون، بعد أن تم تفكيك التعليم الأصيل فيها تدريجيا، حتى اختفى تماما.
وقد عبر عن هذا الجرح عدد من الغيورين، من بينهم الأستاذ خالد الصمدي، والدكتور محمد البدوي، والأستاذة أسماء المالح، وغيرهم، وكلهم يجمعون على أن ما يحدث هو اغتيال تدريجي لمسلك تربوي أصيل، يخالف ما تنص عليه القوانين والمذكرات الوزارية.
نحن لا نطلب المستحيل، بل نطالب فقط بـ:
– إعادة فتح مسلك التعليم الأصيل في ثانوية وادي المخازن.
-السماح بتسجيل الحافظين لكتاب الله نحو هذا المسلك عبر عملية تحديد المستوى،
-توجيه بعض التلاميذ الناجحين في المستوى السادس ابتدائي إلى أولى إعدادي أصيل، وتوجيه بعض تلاميذ الثالثة إعدادي إلى مستوى جذع مشترك أصيل، كما كان معمولا به سابقا.
– الاستفادة من التجارب الناجحة في جهات أخرى، كجهة الشرق وسوس ماسة، حيث التعليم الأصيل ما يزال حيا ومثمرا.
السيد الوزير،
إن إعادة الروح إلى التعليم الأصيل هو امتداد طبيعي لموقفكم من الصلاة، وهو تجسيد عملي للهوية المغربية الأصيلة، التي لا تنفصل عن دينها، ولا تتنكر لتراثها، ولا تفرط في مقوماتها التربوية.
من القصر الكبير، نلتمس منكم لا بصوت فرد، بل بصوت مدينة، وبصوت ذاكرة، وبصوت جيل يرى في التعليم الأصيل أملا لا يجب أن يدفن.
هذه صرخة من القصر الكبير، وجرح لن يندمل إلا بعودة التعليم الأصيل،
هكذا نكتب، لا لنعاتب، بل لنطالب. هكذا نصرخ، لا لندين، بل لنعيد الروح إلى ما كان يوما منارة للعلم، ومحرابا للقيم، ومصدرا للفخر.
وتفضلوا بقبول فائق التقدير والاحترام.
(عن أبناء مدينة القصر الكبير وشهود على أفول التعليم الأصيل.)

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading