من مذكراتي

17 سبتمبر 2025

_ لبيب المسعدي :

وصلت إلى مقبرة مونبارناس في يوم كانت سمائه تكاد تسقط على المباني الهوسمانية نهاية شهر ابريل من سنة 2002، كان ذلك بعد أسبوع فقط من وصولي الى فرنسا وانطلاق سباقي الأبدي في البحث عن السعادة. كان الجو بارداً رغم أن الربيع كان من المفترض والطبيعي حلوله. السماء كانت مغطاة بطبقة من الغيوم الرمادية الكثيفة، والضوء الخافت الذي يتسلل منها كان يكسب المدينة طابعاً حزيناً وكئيباً.
اقتحمت حرمة مقبرة Montparnasse و سيرت الخطى بين الشواهد الحجرية القديمة، وأنا أحمل في داخلي أسئلة كثيرة. أسئلة كل مغترب جديد يخطو على أرض غريبة، وحيداً بلا معين ولا سند. هل سأجد مكاني هنا؟ هل سأستطيع فهم هذه المدينة المعقدة؟ وكيف لشاب قادم من المغرب وخاصة من مدينة مهمشة كالقصر الكبير حيث الحلم والخيال وشغف المعرفة، هم زاد الشباب، أن يبني حياة في مكان لا يعرف فيه أحداً؟
كانت باريس التي رأيتها مختلفة تماماً عن الصورة التي كنت أحملها في مخيلتي. ليست باريس أغاني إيديت پياف وأفلام بيلموندو وآلان ديلون و باردو المفعمة بالأناقة والرومانسية، وليست باريس الجالية المغربية التي كانت تحكي لنا عن النظام والنجاح والرفاهية. كانت مدينة أخرى. مدينة من الاسمنت والضباب، حيث الجميع يسيرون بسرعة ولا يتبسمون في عبث جميل.
وقفت أمام قبر بودلير متسائلاً: كيف استطاع هذا الشاعر أن يخلق الجمال من قبح المدينة؟ وكيف استطاع أن يرى الشعر في شوارع باريس الموحشة؟
كانت تلك الأسئلة ترافقني وأنا أغادر المقبرة في اتجاه برج إيفل مرورا بشارع سان جيرمان ومقهى Lipp حيث شوهد بن بركة حيا لآخر مرة. لم أكن أعلم أن هذه المدينة التي كنت أجهل عنها كل شيء ستصبح بعد ست سنوات فقط مسرحاً لحياتي، حيث سأعمل سائق سيارة أجرة وأصبح باحثا متمكنا نوعا معا في تاريخها العظيم.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading