مفترق الطرق: تيه الروح و شجاعة الإبحار

13 سبتمبر 2025

بقلم : لبيب المسعدي
مرة أخرى، أجد نفسي معلقا عند ذات المفترق الوجودي، حيث تتقاطع مسارات الحياة كخيوط مصيرية في نسيج القدر. أواجه الأسئلة القديمة المتجددة، ومعها يعود ذلك التردد العتيق الذي ألف دروب قلبي فصار رفيقا لها.
أمامي تتشعب الطرق كأوراق الخريف الميتة المتساقطة، كل طريق يلوح لي في تلك اللحظة الحاسمة بصفته الحقيقة الوحيدة، الأكثر صوابا، والأجمل منظرا، والأقرب إلى منطق العقل. ولكن ما إن أخطو فيه خطواتي الأولى، حتى يتحول الوعد إلى سراب، فأكتشف أنه ليس سوى مرآة تعكس أوهاما جديدة، وأن الحفر التي ينطوي عليها هي ذاتها، وإن تنكرت في أثواب مختلفة.
كم مرة توهمت فيها أنني أخيرا أمسكت برأس الخيط مختارا الطريق الصحيح. وكم مرة انكشفت الخدعة، لأعود أدراجي إلى نقطة البداية الأصلية، كأنما حياتي حلقة مفرغة من أسطورة سيزيف الحديثة، أدور فيها كفأر تجارب في متاهة لا تتغير.
أحيانا، يتملكني حنين ساذج إلى بساطة القطارات، تلك التي تسير على قضبان الحتمية، تنطلق من محطة القرار إلى وجهة محددة، بلا توقف، وبلا عودة. لكن الحياة، في سخريتها المعهودة، تفضل أن تتركني في محطة(ماذا لو؟) الأبدية. محطة تتغذى على عصارة الأسئلة التي لا جواب لها.
قيل أن الوعي يبدأ من هنا، من رفض أن تكون نهاية المطاف. هذه المرة، قراري نفسه سيكون مختلفا. لن أنتظر حتى يتحول الخوف من مجرد عابر إلى صديق حميم، ولن أدع سوس الشك ينخر في عقلي حتى يتحول إلى هشيم.
سأختار. حتى لو كان معنى الاختيار مجرد إيماءة وجودية صغيرة، كرمي عملة معدنية في فضاء الاحتمالات. فما يعنيني هنا ليس وجهها الذي سيسقط، بل حركة يدي التي ألقت بها. الحركة ذاتها هي التمرد على الجمود.
ففي النهاية، القرار الخاطئ هو مجرد درس مكتوب بلغة التجربة. أما الوقوف في منتصف الطريق، منتظرا إشارة مرور لن تأتي أبدا من خارج الذات، فذلك هو الموت البطيء للروح وهي لا تزال على قيد الحياة.
ولذلك، سأثق بي. لأن الثقة بالنفس ليست يقينا بوصلتك، بل هي شجاعة الإبحار وسط الشك.
تذكرت! أن هذه الأرض التي أقف عليها، التي لانحس بحركتها والتي يحسبها المسطحون ثابتة، هي في الحقيقة كتلة من الدهشة والدوران. إنها تدور حول نفسها بسرعة تخطئها العين، حاملة أوجاعي وترددي على سطحها، دون أن تيأس أو تتوقف لسؤال (لماذا؟). وهي تواصل انسيابها حول الشمس بسرعة 108 آلاف كيلومتر في الساعة، في رحلة منضبطة لم تنحرف عنها منذ مليارات السنين. وحتى تلك الشمس، منبع قوتنا، ليست ساكنة في عظمتها. إنها تسير بنا حول مركز مجرة درب التبانة بسرعة 720 ألف كيلومتر في الساعة، في رحلة واحدة نحو غاية لا نعرفها.
فكيف لي، وأنا جزء من هذه المنظومة الكونية الهائلة، التي تتحرك بثقة عمياء في ظلمة الفضاء، أن أتقاعس؟ كيف لي أن أعتقد أن ترددي هو مصيبتي الوحيدة؟
الحركة هي قانون الكون، والتجربة هي منهجه، والثقة هي وقوده. لن أطلب اليقين، فلن أحصل عليه. ولكنني سأطلب الشجاعة كي أتحرك، وأثق بأن دوراني حول ذاتي، وحول شمس أهدافي، سيأخذني إلى مكان ما. مكان سيصبح واضحا فقط لأنني تحركت نحوه.
الله أعلم بغاياتنا، ولكننا نحن من نختار أن نكون روادا في رحلتنا الخاصة

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading