
بقلم : ذ. محمد الشدادي
(((هذه القصة ليست من نسج الخيال، بل من نسج الواقع، من دموع أمهات فقدن أبناءهن في عرض البحر، ومن نظرات آباء يحدقون في الأفق كل صباح، علهم يرون ظلا يعود أو خبرا يطمئن، هي حكاية مستوحاة من مآسي حقيقية، من صمت البيوت التي غاب عنها الفرح، ومن صور معلقة على الجدران لا تعود إلا في الأحلام.
نرويها اليوم لأجل أولئك الفتيان الذين يغرر بهم، فيتركون مقاعد الدراسة، ويباع لهم الوهم على أنه مستقبل. نرويها لأجل من ظن أن الضفة الأخرى هي الجنة، ولم يخبره أحد أن البحر لا يرحم، وأن الجهل لا يبني مستقبلا.
هي قصة أم تنتظر، وأب لا ينام، وطفل كان يمكن أن يكون طبيبا أو مهندسا، لكنه اختار أن يركب الموج بدل أن يركب الحلم الحقيقي: التعليم، هذه القصة ليست فقط للتأثر، بل للتفكر، هي دعوة لكل تلميذ أن يعيد النظر، أن يفهم أن المدرسة ليست سجنا، بل بوابة النجاة الحقيقية، وأن من يبيع له الوهم، لا يملك سوى الخراب.)))
في قرية جبلية هادئة على أطراف إقليم العرائش، حيث لا يسمع سوى خرير الجداول وصوت المعز يعلو من بعيد، كان “أنس” فتى يتابع دراسته بالمستوى جذع مشترك علوم، لم يكن ضعيفا في التحصيل الدراسي، لكنه كان مشتتا بين حلم الهجرة الذي يراوده كل مساء، وبين واقع لا يمنحه الكثير من الأمل. كان يتابع على هاتفه صورا ومقاطع لشباب يبتسمون في شوارع أوروبا، يروون قصص نجاحهم، ويعرضون مظاهر حياتهم الجديدة. بدأ يفكر في الرحيل، في البحر، في الغابة، في الطريق الذي يسلكه الآخرون.
في أحد الأيام، اختفى “سفيان”، زميله في القسم، بعدما أقنع والديه ببيع بقرتين وحصان لتمويل رحلته عبر البحر، قال لهم: سأعود بسيارة، وسأبني لكم بيتا جديدا، وسأعوضكم عن كل هذه المعاناة وقساوة الحياة. غادر في ليلة مظلمة، ولم يعد، مرت أسابيع، ثم شهور، لا مكالمة، لا رسالة، لا خبر..
أمه كانت تخرج كل صباح إلى مدخل القرية، تحدق في الطريق، كأنها تنتظر أن يظهر فجأة، وتسأل أصدقاءه هل تواصل مع أحد منهم عبر حسابه في الواتساب أو الماسينجر؟ أبوه صار صامتا، لا يتحدث إلا حين يسألونه عن سفيان، فيقول بصوت حزين: ربما وصل… ربما لم يصل.
في إحدى الليالي، تلقى أنس اتصالا من رقم غريب، كان الصوت متعبا، متقطعا، لكنه مألوف. إنه بلال، أحد أبناء القرية، الذي غادر منذ عام في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر تركيا ودول أوروبا الشرقية، ثم عبر البحر في مركب مثقل بالأنفاس والخوف. كان بلال حينها في السنة الأخيرة من الثانوية، يستعد لاجتياز امتحان الباكالوريا، ويحلم بأن يصبح مهندسا زراعيا، طبيبا، أو صيدليا، لكن الحلم تغير، والضغط كبر، والوعود أغرته، ترك الدراسة، وسافر.
أين أنت يا بلال؟ كيف حالك؟ مبروك عليك أوروبا، جنة الأرض المأمولة.
رد عليه: أي جنة تتحدث عنها؟ لقد كنت أعيش في الأوهام، تحطمت كل الأحلام، وها أنا عدت للدوار.
في اليوم التالي، نظم شيخ القرية لقاء توعويا في ساحة المسجد، دعا فيه شباب الدوار: من يدرس، ومن انقطع، ومن ينتظر فرصة عمل، جلسوا على الحصير، يحدقون في الأرض، كأنهم ينتظرون شيئا غير مألوف، وفجأة وقف بلال أمامهم، وجهه شاحب، عيناه غارقتان في الذكريات، وصوته يحمل نبرة من عاش أكثر مما ينبغي.
قال: إخواني، كنت أعيش وهم الهجرة مثلكم، ظننت أن أوروبا هي الجنة، وأن البحر طريقها، وأن الملائكة التي تعدنا بالعبور هم مجرد عصابات، دفعت كل ما أملك، وتركت دراستي، وسافرت من المغرب إلى تركيا، ثم عبرنا البحر في مركب صغير، مثقل بالبشر، لا يتسع حتى لنصفنا. كانت الأمواج عالية، والليل حالكا، والبرد ينهش العظام، ثم انقلب المركب فجأة، كأن البحر غضب علينا. رأيت الناس يصرخون، يتشبثون ببعضهم، ثم يغرقون واحدا تلو الآخر. كان معي ‘معاذ’، ابن القرية المجاورة، أعرفه منذ الطفولة، معاذ لم يكن فقيرا، بل فقيرا في الأمل، جمع مبلغ الهجرة من خلال بيع أمه لما تملكه من ذهب، وحقل زراعي ورثه عن والده. ستة ملايين سنتيم دفعها ليغادر، وهو يظن أن البحر سيعيدها مضاعفة. كان يصرخ باسمي، يمد يده، والمياه تبتلعه شيئًا فشيئًا، لم أستطع إنقاذه، لم أستطع حتى الصراخ، رأيته يصارع الموت، ولم يكن بعيدا عني.
سكت والدموع تسيل من عيونه، ثم تابع: نجا القليل منا، لا أعرف كيف وصلنا إلى اليابسة؟ وبدأنا رحلة الغابات، كنا نمشي ليلا، ننام تحت الأشجار، نأكل من بقايا الطعام، نشرب من مياه لا تصلح حتى للغسل. وفي إحدى الليالي، سمعنا نباحا يقترب، كانت الكلاب البوليسية، ركضنا في الظلام، نتعثر في الجذور، نختبئ خلف الأشجار، لكنهم كانوا أسرع منا. رأيت شابا يسقطه كلب من ساقه، وآخر يحاصر بين ضوء المصابيح وصوت الأوامر، قبضوا علينا واحدا تلو الآخر، بلا رحمة، بلا سؤال. احتجزونا لمدة شهرين، وبعض توصلهم إلى جنسياتنا، رمونا في حافلة، ثم في طائرة، وعدنا كما جئنا، بل أسوأ. عدت مكسورا، بلا مال، بلا حلم، بلا كرامة، وضاع مني عام دراسي، عام من حياتي.
ثم نظر إليهم وقال: الهجرة ليست مغامرة، بل مقامرة، منا من مات، ومنا من فقد، ومنا من يعيش في شوارع أوروبا كالمتشرد. لا تصدقوا الصور، ولا الفيديوهات، ولا الوعود، صدقوا من عاشها، من ذاقها، من نجا من الموت وعاد منها حيا ليحذركم.
ساد الصمت، لم يكن هناك تصفيق، بل وجوه تفكر، وقلوب ترتجف، ثم عرض عليهم شريط فيديو حقيقي لمركب يغرق قبالة سواحل المغرب، ظهر المركب وهو يتمايل وسط الأمواج، ثم بدأ بالغرق شيئا فشيئا، وفي الخلفية، عرض تسجيل صوتي لمعاذ، سلمه له قبل غرقه عندما رأى المركب تتقادفه الأمواج: إخواني في القرية، لا تغامروا بحياتكم، البحر لا يرحم، والحلم الذي نطارده قد يبتلعنا، أنا الآن في عرض البحر، المركب يهتز، والقلوب ترتجف، إن عدت، سأزرع الأرض معكم، لن أترك مقعد المدرسة، وإن لم أعد فاذكروني بدعوة صادقة.
ثم تقدمت والدته، وعلامات الحزن والندم بادية عليها، ووقفت أمام الحضور، وقالت بصوت مكسور: كان معاذ كل حياتي، بعت ذهب زواجي، وبعت الحقل الذي ورثه عن أبيه، بعد أن غرر به سماسرة الهجرة السرية، لأدفع ثمن مركب الموت، قال لي قبل أن يغادر: عند عودتي من هناك سأعوضك عن كل شيء يا أمي، لا تحملي هما، بضعة أيام وأصل حيث المال والعمل والكرامة والحقوق كما صورت له ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، لكن البحر أخذه، ثم انهارت بالبكاء، فبكى معها الحضور، وشعر الجميع بثقل الفاجعة.
وفي لحظة صامتة، خرج أنس من الساحة، يحمل شتلة زيتون، وتوجه إلى أرض والده، وغرسها في التراب، ثم وضع لوحة خشبية كتب عليها: هنا يرقد حلم معاذ، وهنا نزرع الأمل، مستقبلي في الثانوية، في طلب العلم، وليس في ركوب البحر، الهجرة مجرد حلم ووهم، فحيا على الاجتهاد والتحصيل الدراسي.
من تلك اللحظة، اجتمع بلال وأنس وعدد من شباب القرية، وأسسوا جمعية محلية بجماعتهم الترابية، حملت اسما مستوحى من الألم والأمل: “جمعية إنقاذ الأحلام من الغرق”. وانطلقت أولى أنشطتها بالدوار، حيث نظمت لقاءات توعوية، مباريات رياضية، وعروضا فنية، وورشات تكوينية، ضمن برنامج متميز، ثم بدأت تتنقل بأنشطتها التي تجمع بين الفن والثقافة والرسالة والتوعية بين قرى الجماعة.
في إحدى الأمسيات، استضافت الجمعية أحد أبناء القرية من الجيل الأول من المهاجرين، يعيش منذ أكثر من ثلاثين سنة في ضواحي باريس، جلس أمام الشباب، وسرد تجربته: ” هاجرت منذ سنين، بعد أن كانت جواز السفر وحده كافيا للوصول إلى أوروبا، التي كانت محتاجة لليد العاملة، اشتغلت في المصانع والبناء، وادخرت، وبنيت بيتا هنا بالقرية وهناك، ولكني خسرت أبنائي، لم أستطع تربيتهم على ما تربيت عليه. المدرسة هناك لا تعلم ديننا، ولا تحترم قيمنا، كبروا في بيئة لا تشبهنا، لا يصلون، ولا يعرفون معنى صلة الرحم، كنت أظن أنني أهرب من الفقر، لكنني اكتشفت أنني هربت من جذوري. نحن نعيش هناك، لكننا لا ننتمي، وأبناؤنا ينتمون هناك، لكنهم لا يعرفون من أين جاؤوا؟
ثم أضاف بصوت حزين: ابنتي الكبرى ممرضة تزوجت بمحامي فرنسي وعقدت زواجها داخل الكنيسة، وابني مهندس لا يتكلم حتى لغتنا العربية، وها أنا أجد نفسي قد ربحت المال ولكن خسرت أبنائي. وأضاف وعيونه مغرورقة بالدموع: أنصحكم أن تبنوا هنا، أن تحلموا هنا، أوروبا ليست جنة، بل اختبار طويل، ومعاناة مستمرة، قد تربح فيها المال، لكنك تخسر فيها الروح. ماذا سأقول غدا يوم القيامة لربي حين يسألني عن أهلي؟ ألم ينبهنا في قوله تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة..).
وفي لقاء آخر وقفت سمية، شابة في الثلاثين من عمرها، أمام الحضور في إحدى أمسيات جمعية ” إنقاذ الأحلام من الغرق”، وقد بدا على وجهها أثر الصدمة التي لم تندمل. كانت ترتدي حجابا بسيطا، وعباءة سوداء، لكن صوتها كان أقوى من مظهرها، يحمل وجعا دفينا لا يروى بسهولة.
قالت بصوت خافت، لكنه واضح: كنت مخطوبة، أستعد للزواج، وكنت أحلم ببيت صغير، وأسرة دافئة، لكنني توهمت بأن أوروبا يجب أن تكون هي البداية الحقيقية، وأن الزواج يمكن أن ينتظر، أما الفرصة فلا تنتظر أحدا. أقنعت خطيبي أن يتعاون معي لتوفير مبلغ (الحريك)، ومجرد ما أن أصل وأحصل على عمل وبطاقة الإقامة حتى ألحقه بي بطريقة قانونية دون مخاطر، وألححت عليه أن نبدأ حياتنا من هناك. بعت كل ما أملك من ذهب، وأعطاني مبلغ صداقي، وجمعت مبلغا كبيرا، وسلمناه لعصابة تهريب البشر، على أمل أن أركب البحر ونصل، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وبعد أن تنقلت بنا العصابة من مكان إلى آخر، مرة مجتمعين، وأخرى متفرقين، ذقنا منهم أنواع المعاناة، سب، شتم، ألفاظ ساقطة، تحرش … وبعد مرور قرابة شهر ونحن على هاته الحالة، أخذوا منا كل ما نملك، حتى الهواتف، لا نعرف أين نحن، فتحركاتنا كانت كلها في الظلام، والنهار نقضيه بين الغابات والكهوف. وكم ابتزوا أسر عدد ممن كانوا معنا، حيث كانوا يجعلونهم يتصلون بأسرهم لإرسال المزيد من المال وإلا أن أبناءهم سيسمونهم سوء العذاب، وكم من الآباء كانوا يرضخون لطلباتهم حفاظا على أرواح أبنائهم.
في إحدى الليالي الشديدة الظلمة من فصل الشتاء، ركبنا قارب الموت كما يسمونه، وأملنا أن نصل أحياء إلى جنة الأرض. وبعد مرور حوالي ساعتين، والمركب يمخر بنا أمواج البحر توقف بنا بشاطئ مهجور، وطلب منا أعضاء العصابة النزول ونطق أحدهم: هنيئا لكم، ها أنتم أمام حلمكم، إسبانيا تستقبلكم، فانتشرنا متفرقين كالجراد وسط الغابة، حذرين أن يتم القبض علينا من قبل الدرك الإسباني، لكن المفاجأة ما أن بدأ نور الصباح يظهر حتى شاهدنا علامة بجانب الغابة مكتوب عليها بالعربية ممنوع إشعال النار، عندها علمنا أننا بإحدى مناطق المغرب، تخلت العصابة عنا، أخذوا المال، أخذوا كل شيء، بالنسبة لي أخذوا حتى كرامتي، تركوني هناك، بلا خطيب، بلا حلم، بلا حماي، لم أعد كما كنت، لا جسد ولا روح، عدت إلى القرية مكسورة، لا أملك شيئا، لا مال، لا مستقبل، ولا حتى احترام الناس.
ثم نظرت إلى الحضور، وقالت: أنا لست ضحية البحر فقط، أنا ضحية الوهم، ضحية ما تنشره مواقع التواصل الاجتماعي، وضحية مجتمع لا يسأل كيف؟ ولماذا؟ بل يدين ويصمت، الهجرة ليست فقط غرقا في الماء، بل غرق في الندم، في العار، في النسيان..
ساد الصمت، ثم بدأ بعض النساء بالبكاء، وبعض الشباب يطأطئون رؤوسهم، وكأنهم يسمعون لأول مرة الوجه الآخر للهجرة السرية.
بعد هذا اللقاء، أطلقت الجمعية محورا جديدا ضمن برنامجها، بعنوان: الهجرة والمرأة: من الحلم إلى الاستغلال.
بدأت بتنظيم ورشات خاصة بالفتيات، حول التوعية القانونية، الحماية من شبكات التهريب، وكيفية بناء مشروع داخل الوطن. كما بدأت بتوثيق شهادات نساء وقعن ضحايا للهجرة السرية، لتحويلها إلى عروض مسرحية ومقاطع توعوية تعرض في المدارس والمنتديات.
وفي مهرجان الأمل السنوي الذي نظمته الجمعية في مقرها بالقرية، وقفت سمية على المنصة، وسط تصفيق النساء، وقالت: كنت أظن أن البحر سيحملني إلى بداية جديدة، لكنه علمني أن البداية الحقيقية تبدأ من هنا، من الأرض، من الوعي، من الكرامة.
ثم سلمتها الجمعية درعا رمزيا كتب عليه: من وجعك، ولدت رسالة، ومن سقوطك، نهضت نساء كثيرات. كما كرموا أم معاذ كرسالة لكل أم، وأب ألا يطاوعوا أطفالهم ويرضخوا لطلباتهم لتوفير مبالغ مالية ليسلموها للمتاجرين في الهجرة السرية.
وهكذا، أصبحت سمية صوتا نسائيا قويا داخل الجمعية، تشارك في كل لقاء، وترافق الفتيات في ورشات التكوين، وتكتب مقالات توعوية تنشر في صفحة الجمعية على مواقع التواصل.
أما أنس، فها هو في السنة الثانية من الثانوية، أكثر وعيا، أكثر التزاما، وأكثر إيمانا بأن التغيير لا يأتي من البحر، بل من الداخل، كتب على جدار مقر الجمعية: كنا نحلم بالهروب، فتعلمنا كيف نحلم بالبناء، الطريق التي توصل تبدأ من هنا، من القسم، من الأرض، من الجذور التي لا تغرقها الأمواج.
وهكذا، تحولت مأساة ضحايا قوارب الموت إلى مشروع، وتحول الحلم إلى حركة، وتحولت قرية صغيرة إلى منارة توعية في جهة الشمال، تقول لكل من يفكر في الهجرة السرية: لا تهاجروا نحو الغرق، ازرعوا الأمل هنا..
جمعية تنقذ الأحلام من الغرق لم تكن مجرد فكرة، بل كانت ولادة جديدة لوعي جماعي، يعيد تعريف النجاح، ويعيد الاعتبار للأرض، للعلم، للكرامة، وللأمل الذي لا يباع ولا يغرق.