ذة ربيعة حميحم
كنت فراشة جميلة ، مزركشة بألوان قزح ، تتمايل خفة وجمالا ، تطير فوق السحاب ، لكنها وقعت في شباك صياد ماهر …..
كانت أسوار جامعتي شاهدة على أقوى قصة حب ” علي وحنان ” كانت صديقاتي تنادينني بليلى ويسألنني عن قيس ويمازحنني : قيس لم يتزوج ليلى !!!!! فأغضب ……. فلا اريد مجرد تفكير انني لن أتزوج عليا .
كنت مفعمة بالبهجة والانطلاق ، أغدق بحناني وعطفي على كل من حولي ……. عنوانا للمرح والتفاؤل ، وطبعا فتاة أحلام العديد من الزملاء . لكن قلبي الصغير كان مغلقا بالقفل ، ومفتاحه في حوزة زميلي “علي “.
كنت أرى فيه فارس الأحلام ، صاحب الحصان الأبيض ، الذي سيخطفني إلى عالم بعيد .
كنت عنقاءا تعانق السحاب ، لكن أحلامي بسيطة للغاية ، عش الأحلام الهادىء ، و سقف بيت يجمعني انا وهو ، وخبز وزيتون يكفينا للعشاء …….. حبنا كان زهرة جميلة أسقيها بعطر قلبي .
لكن الحكاية بدأت تتخطى أسوار الجامعة ، ليتهامس بها المقربون ، كنت أطير بحبي له ، وأطير معه إلى عالم الخيال والمعجزات …… أستمد منه قوتي وهمتي العالية ، معه عشت أحلى الأوقات وأسعدها ، فقررنا أخذ خطوة عملية ، فلا بد من إعلان الخطوبة ، وإخراس الألسنة …….لكن كيف ؟؟!!!!!
موجة عالية أكبر مني ، لكن لا بد ان أركبها وأواجه أمي وأبي ، وأن يرسو حبنا على شاطىء هادىء ……
فاتحت امي ، لكنها أطلقت صرخة الموت ، ولطمت خديها مستنكرة موافقتي على طالب ، لا زال مشواره طويلا …… وأنني سأكون أضحوكة العائلة ، كنت وحيدة أبواي ، ريحانة البيت ، كنت مدللة لحد الثمالة …. أحلامي كلها أوامر ،
كانت أمي تريدني ملكة متوجة في بيت الأحلام ، أن أكون مرتاحة ، ولكنها أحكام القلب النافذة ولا يد لنا فيها ، لم تكن الماديات تهمني ، كنت أرى فيه الرجل الشهم الذي سيحميني من غدر الزمان ، مستعدة للعيش المر قبل الحلو ، المهم أن نكون معا جنبا إلى جنب مدى الحياة …..
كل الأبواب أمامنا مغلقة ، لكن همتنا عالية وخليقة بأن تفتح كل موصد .
كنت أعول على أمي كي تقنع أبي ، لكن موقفها كان حاسما .
قطعت كل الخيوط ، مهددة بترك البيت إذا وافق على الخطوبة….
لكنني لم أيأس فأملي كبير في والدي ، سندي وظهري ومخزن أسراري .
جلست بجواره كقطة وديعة ، أنتظر انتهاءه من الصلاة ، قلت له مازحة ، لقد رأيت لك حلما جميلا هذه الليلة ، فقال مستبشرا : صحيح هيا بشريني
قلت رأيتك خيرا وسلاما ، نازلا من درج طويل ، وأنا أتبأبط ذراعك لتسلمني لشخص ، بيديك هاتين وقبلت يديه .
قهقه أبي ، ودخل في نوبة ضحك عالية قائلا : إذن هناك شخص يريد التقدم لك ، هذا صحيح أم لا؟؟؟
أجبت على الفور : نعم ويريد موعدا ليتعرف عليك انت وامي. لكني أريد معرفة بعض الأمور …… وقفت بسرعة ، وقلبي يترنح ، وقلت له : هو زميلي ، ولا يملك شيئا ، لكنه متمسك بي ونطمع في خطوبة رسمية ، والزواج الى حين ميسرة .
صمت أبي برهة من الزمن ……. فقلت متوددة : أنت دائما تنحاز للفقير ، أسمعك تقول ، أن من حقه ان يعيش ويتزوج ويحلم ……. قال: بلى .
وقعت المعجزة ، وتمت خطوبتي على علي . وأخيرا لبست خاتم الخطوبة ،
أما أمي ، فالموضوع بالنسبة لها كارثة بجميع المقاييس …… فقد كانت تتمنى لي ، شخصا جاهزا بكل مصاريف الزواج ، لا أن يستلف ثمن دبلة الخطوبة ، وتابعت بازدراء شديد ، أن العائلة كلها ستتحدث عن خيبتي الثقيلة ، لم أكثرت لكل هذا الكلام أبدا .
دخلت كليتي ، ويدي متشابكة في يد علي ، وأشير للخاتم لكل من يصادفنا فيبارك ويهنأنا .
المهم اجتزنا العام بنجاح ، وحصلنا على شهاداتنا الجامعية ، وبدأ “علي” في طرق مسالك المباريات والوظائف ، لكنه يقابل بالرفض .
بدأ أبي يعترض على خروجنا سوية …… ويطلب مني ان نعقد قراننا ، لكن كيف ؟؟؟ وهو لا يملك مهرا ، ولا أي شيئ ….. بدأت أمورنا تتعقد فلا يمكن للخطوبة أن تمتد لأكثر من هذا . أما أمي فبدأت مهمتها في التحريض، إما أن يعقد القران او تفسخ الخطوبة ……
اكتشفت أن جذور حبنا معلقة في الهواء ، وأنه موؤود منذ ولادته .
كنت أرى نظرات انهزام في عيني علي ، وذبول فؤاده ، لكن العين بصيرة واليد قصيرة ، بدأ اليأس يلج دروب قلوبنا ، وبدأت الأحلام تتكسر على شاطئ ملغم.
سحب مثقلة من الهموم تراكمت علينا ، لا بد من مرفأ قريب.
إلى أن جاء يوم الحسم فقد قرر علي الهجرة الى إسبانيا …… اعترضت في البداية ، لكن ماباليد حيلة ، فكل الأبواب موصدة ، ولا سبيل من إنقاذ حبنا الغريق إلا بالإبحار عبر سفن الموت وزوارق المجهول .
توادعنا …… أحسست بغمة بالغة ، وكأن روحي ذهبت معه ، انشطر قلبي شطرين ، لم يعد لحياتي طعم من دونه ، شعرت أن الدنيا تتلاشى من أمامي ، لكن أملي في انفراج أكيد ، كان يعزيني ويقويني ، نار الأشواق تلتهمني ببطئ .
ومرت الأيام …… وبدأت تأتيني أخبار جميلة ، تثلج الصدر وتعزيني عن فراق نصفي الثاني ، كنت أمني نفسي بلقاء قريب ، يضمد لوعة الفراق ويداوي جراح الغربة .
كنا نتواصل يوميا ، أشجعه ويشجعني ، أناجي طيفه ويناجيني ….. أشم عطره في كل مكان .
لم أكن أعلم ماتخبئه لي الأيام ، زلزال كبير ضرب الفؤاد فقسمه شطرين ،
فقد تطايرت شائعة زواجه بأجنبية . لكنني كذبت الخبر ، لا يمكن لفارس أحلامي أن يفعل هذا !!!!!
اتصلت به فورا ، ظننته سيبرر فعلته ، وبأنه زواج أبيض غرضه مصلحتنا ، ومن اجل تيسير زواجنا ، لكنه لم يقل شيئا من هذا القبيل ، بل كان على استعجال من أمره ، و تمنى لي حظا سعيدا مع شخص غيره .
يا إلهي هل هذا هو علي ؟؟ الذي تحديت به العالم ؟؟؟ كيف راهنت على حصان خاسر ، رصاصة أصابت قلبي فمزقته وأردته شهيدا ، لم أسمع شيئا من كلامه أو مبرراته الواهية ،
دخلت في نوبة هستيرية من الصراخ …….
لم أتصور يوما أنه سيبيع حبنا بهذه السهولة ، لم اتصور أن ماكان بيننا مجرد وهم ، قنبلة ذرية ، نسفت كل الآمال ……. هل ماعشته كان حقيقة ؟ أم مجرد سراب .
كيف سمحت له نفسه ان يتخذ خطوة كهذه …..
كيف استطاع ذبحي من دون مشورتي ، كيف باعني في لحظة مصلحة واشترى غيري .
تمنيت لو طلب مني الانتظار ، كنت سألبد في قراري المكين ، لكنه مزق كل الأوراق ….. قطع يدا امتدت له بالحب والعطاء ……. ومزق سنينا من الوعود
أصبحت وزرا ينقض ظهره ، فقرر التخلص مني ، قطع جميع الطرق وضيع معها أحلى سنين عمري ، أحسست أنني أموت ، وأنين جرحي يمزق الظلام …..
سقط المعبد على رأسي ، بعد أن بنيناه سوية حجرا حجرا ،
لن أستطيع العيش من دونه ، لوعة ومرار لم أحس بنفسي إلا في المستشفى
نار اشتعلت في روحي ، لتتهتك وتهرأ ، طردني من جنته المزعومة التي ملأها وعودا زائفة .
اعتذرت لوالدي ، عن كل ماسببته لهما من ألم غير مقصود نتيجة ثقتي العمياء ، في شخص انتهازي من الطراز الرفيع، قطار يدوس على مشاعر الآخرين ، لا يتوقف الا في محطة تكون فيها مصلحته.
ياللفظاعة ماكنت أتصور أبدا هذه النهاية … كان أيسر علي أن أسمع خبر موته ، لا بزواجه من أخرى ……..
هموم أرخت سدولها علي ، لأغرق في بحر الكآبة ، جفت مقلتاي من الدموع وزاغت نظراتي ، كفرت بآلهة الحب وحطمت تمثالها ، احترقت الفراشة بوهج الحب
واكتوت بناره ….. فراشة جميلة لكنها حشرة لا أنياب لها ولا مخالب ، سعت للنور وفيه الفناء.
فراشة وهنت و تكسر جناحها فذابت في بحر الأحزان …. ذبلت ورود قلبي وشاخت .
اعتكفت في محراب بيتي لا أكلم إنسيا ، هجرت كليتي ودروسي وصديقاتي ، ظننت أن الكل يعرف حكايتي ، ويشير إلي بالبنان ، ويقص ما جرى لي ، ظننت أن الكل يشمت بي ، تكسرت الأحلام ، على شاطئ مرير ، لا أدري كم لبثت على حالتي هذه ، لكنني لملمت جراحي ، ونهضت …… خرجت من كهفي المظلم لأعانق النور من جديد ، نفضت عني غبار الخيانة ، دست على أشواكي . قطفت ورود الحياة الجديدة ، جددت جلدي الناعم بآخر ملئ بالأشواك !!!!!
لابد للعطاء من حدود ، ولابد وان يكون للعقل عيون ترى …….
ولابد من رفع حجاب القلب حتى لا يعمى .
ولا بد لبصيرة قبل البصر ، سحقا لكل دنيىء تلاعب بمشاعر أنثى أو العكس . نزعت رداء الشوق ، وانبعثت كبيضة الفينق من الرماد ، لن أكون فراشة بعد اليوم ……
قررت الإبحار بعيدا واخترت مرساي ومرفئي شاطئ السعادة بدون هموم ولا كدر ، غسلت قلبي بماء البرد ودفنت أحزاني وانطلقت .