
بقلم : لبيب المسعدي .
الثلج عاد نادرا في هذا شتاء الباريسي اللئيم. ليس كما كان عليه من قبل، هذا ما سمعته من القدامى، لكنه اليوم يتساقط كغبار زجاجي بارد، يغطي أسطح السيارات، يخنق أصوات المدينة، ويجعل الطرقات أكثر زلقة. كنت أتلمس طريقي بسيارتي، تلك التي صارت كأنها غرفتي الثانية على ضفاف نهر السين.
فتح بابي الخلفي بعنف.
“سيدي! المستشفى! بسرعة، أتوسل إليك !” صرخ رجل أفريقي بلكنة مادرسه المستعمر في بلده. صوته مشقوق بالرعب. حمل بذراعيه امرأة، كان بطنها هائلا كجبل تحت ثيابها البسيطة، وجهها مشوهاً بآلام مروعة.أفارقة مثلي، رائحة العرق والذعر امتزجت مع رائحة الجلد البارد لمقعد سيارتي.
“أي مستشفى؟” سألت، محاولا كبح رعشتي. كل ثانية كانت ثمينة كالذهب.
“الأقرب! أي أقرب مكان، يا أخي!” نطق الرجل، عيناه واسعتان كالسماء.
ضغطت على الدواسة. قفزت المرسيدس العتيقة إلى الأمام، انطلقت بين السيارات المتثاقلة ببطء تحت الثلج. عبرنا جسر ألكسندر الثالث، ذلك الجسر الفاخر المطلي بالذهب، شاهدا صامتا على تاريخ من الحروب والأباطرة. مررنا بجانب ساحة الكونكورد، حيث صرخت رؤوس الملوك تحت شفرة المقصلة. كل حجر هنا يحمل قصة، كل شارع يتنفس تاريخا عتيقا. كنت أشرح هذه الأمور عادة للسياح، بفخر المغربي الذي صار خبيرا بمدينة النور. اليوم، التاريخ كان صامتا، لا يهم سوى الصراخ الخافت الذي يتسرب من المقعد الخلفي.
“أوه يا الله! طفلي… قادم!” صرخت المرأة، مخالبها تغوص في ساعد زوجها.
قلبي وقف. هنا؟ في سيارتي المتواضعة؟ تذكرت سيارة اسعاف حمراء آيلة للسقوط في شوارع مدينتي..القصر الكبير، في شمال المغرب. هناك، الولادة كانت حدثاً جماعيا تسبقه صلوات علي النبي وتلاوات وصراخ النساء المبتهج. هنا، في باريس المتلألئة والقاسية، في شتائها الأبيض والقاتل، قد تولد روح في سيارة أجرة عتيقة، وحيدة إلا من زوج مرتعب وسائق غريب.
“تمسكي يا أختي! قريباً!” صرخت، ثم ركزت على مهمتي ،، شوارع باريس، رغم جمالها التاريخي، تحولت إلى متاهة ثلجية. رأيت مستوصفا صغيرا تابعا للقطاع الخاص. لم أفكر. توقفت أمامه بصرخة العجلات.
“نجدة! امرأة تلد!” قفزت خارجا. أطرق على الزجاج بقبضتي المجمدة. و أنادي رجل الأمن بكل ما ملكت من قوة. لم يأخذ الأمر دقيقة. رجل إسعاف وممرضان ببدلاتهن الفاقعة في البياض، انطلقوا كالنحل المنظم. حملوا المرأة بلطف فائق على نقالة. أحدهم نظر إلي، عيناه تقدران الموقف بسرعة.
“لقد أوصلتها في الوقت المناسب. عمل جيد سيدي السائق”
لم يكن لدي وقت للرد. سيارة الإسعاف التهمتهم بضوئها الدوار وصوتها الحاد الذي مزق صمت الشارع الثلجي، ثم اختفت كشبح في اتجاه مستشفى أخر.
بقيت واقفاً هناك، أنفاسي تتكثف في الهواء كسحب صغيرة. داخل سيارتي، على المقعد الخلفي الداكن، بقعة رطبة ولامعة. دليل على الحياة التي كادت تبد في عالمي الصغير المتحرك. رائحة جديدة اختلطت بالجلد والعطر القديم: رائحة بداية.
نظرت حولي. باريس تتلالائ تحت الثلج، قصورها ومتاحفها شامخة، تاريخها مكتوب على كل جدار. فكرت في أزقة القصر الكبير الدافئة، في ضجيج الحياة البسيطة هناك. هنا كنت سائق تاكسي، مجهولا في بحر مدينة اعرف تفاصيل تاريخه وأزقتها و جدرانها.. هناك، أنا ابن تلك الأرض، كل حجر وكل وجه وكل جدار يعرفني.
في قلبي، حلم صلب كالصخر: أن تكتب هذه المشاهد، هذه اللحظات البشرية الخام التي اختبرتها على مقود سيارتي الصفراء، في شوارع باريس وقصورها وثلجها. أن أخرج بمذكراتي يوما للعلن. ليس عن التاريخ العظيم، بل عن الحياة الصغيرة التي تدب في ثناياه. عن الولادات المفاجئة في سيارات الأجرة، عن الغرباء الذين يصبحون أبطالا للحظات، عن الطقس البارد الذي لا يستطيع إخفاء دفء الروح البشرية.
أعدت الجلوس خلف المقود. البرد اخترق معطفي. شغلت المحرك، والصوت المألوف هز السيارة. أمامي، امتد شارع مغطى بالثلج، يلمع تحت مصابيح الشارع كطريق من الفضة. في مكان ما، طفل جديد يصرخ لأول مرة في مستشفى باريسي دافئئ. وفي سيارتي، بدأت قصة أخرى. قصة أتمنى أن أرويها يوما ما.
باريس فبراير 2011