
بقلم : أحمد الشواي :
ذلك الصباح، أشرقت الشمس كأنها استعارت دفئها من ربيعٍ ضلّ طريقه إلى الشتاء. السماء صافية، والهواء عليل، وكأن المدينة قررت أن تمنح ساكنيها هدنة من كآبة الفصل البارد.
خرج “عدنان” من بيته بخطواتٍ موزونة، متجهًا إلى عمله المعتاد في إحدى الإدارات العمومية. رجلٌ محلف، يزاول مهامه كفني، كما يفعل كل يوم، بضميرٍ حيّ وبدون كثير من الضجيج.
لم يكن يعلم أن هذا اليوم سيختلف.
كان اليوم مليئًا بالمعاينات الميدانية التي تطلبت منه مغادرة المكتب لساعات، يطارد فيها تفاصيل الملفات، يتفقد، يُدوّن، ويرفع التقارير كما يليق بمهمته. ومع اقتراب المساء، عاد مُنهكًا، وقبل أن تطأ قدماه عتبة الإدارة، التقطت أذناه جملة مبهمة من أحد المارّين: “اليوم ستنفجر “…?
توقف لحظة، نظر حوله، لم يجد شيئًا يثير الشك، فتابع سيره.
في الداخل، استقبله “الشاوش” بنبرة تحمل أكثر من معنى:
“راه كاين اجتماع مع الرئيس مع الثالثة… ما تتأخرش!”
هزّ عدنان رأسه وتوجه نحو مكتبه. جلس، تنهد، وقال في نفسه:
“الله يسمعنا خبر خير…”
ثم شرع في مراجعة الملفات كعادته، محاولًا اللحاق بما تبقى من الوقت.
وحين دقّت الساعة الثالثة، دخل القاعة حيث كان الاجتماع قد بدأ. الرئيس كان في مزاج عاصف، يتكلم عن تقصير، عن ضعف المردودية، عن “المقصلة” التي لا ترحم. كلامه كان عامًا، لكن نبرته توحي أنه يوجه السهام نحو أحدهم.
طيلة الاجتماع، كان عدنان يدوّن النقاط بإمعان، ملامح وجهه لا تفضح ما يجول في داخله. وبعد ساعتين من الكلام المتوتر، انتهى اللقاء، وبدأ الموظفون في الخروج بصمت.
لكنه، وقبل أن يغادر، اقترب منه الكاتب الخاص للرئيس، ابتسم بتحيةٍ سريعة، ثم همس في أذنه:
“كل هذا كان عنك… إنهم يراقبونك، فكن حذرًا.”
توقف الزمن لوهلة.
تردد صدى الكلمات في رأسه، مثل ناقوس خطرٍ دُقّ في عمق سكينةٍ زائفة.
في تلك اللحظة، تولدت في نفسه رغبة لم يعرفها من قبل:
أن يكشف الحقيقة، أن يخرج من الظلال، أن يفهم… لماذا؟ ومن؟ وماذا بعد؟
عاد عدنان إلى مكتبه بعد ذلك الهمس الثقيل، لكنه لم يكن كما كان.
الهدوء الظاهري في الممرات صار يخنقه، وضربات الساعة على الحائط بدت له كعدّ تنازلي لشيء غامض.
فتح دفتراً جانبياً لا يطّلع عليه أحد، وسجّل فيه جملة قصيرة:
“يراقبونني… لكن من؟ ولماذا؟”
مرّت الدقائق ثقيلة، وهو يحاول أن يتظاهر باللامبالاة. تصفّح بعض الملفات، أعاد ترتيب بعضها الآخر، لكن ذهنه كان منشغلًا بذلك الاجتماع الغريب، بنظرات الرئيس الحادة، وبهمسات الكاتب التي اخترقت جدران الثقة التي اعتاد أن يحتمي بها.
في اليوم التالي، قرر عدنان أن يراقب بدل أن يُراقَب.
لاحظ من يدخل مبكرًا، من يغادر متأخرًا، من يتحدث همسًا في الزوايا، ومن يبتسم كثيرًا دون سبب.
اكتشف أن خلف الهدوء الإداري، هناك ما يشبه “الخشية المنظمة”… الموظفون يبدون مطيعين، لكن عيونهم تراقب بعضها بعضًا، كأن الكل خائف، والكل خائن.
في المساء، قرر أن يخرج من صمته.
اتصل بزميل قديم انتقل إلى إدارة أخرى قبل سنوات، كانا يثق أحدهما بالآخر. التقى به في مقهى بعيد عن الأنظار، وروى له ما حدث.
قال له الزميل، بعد أن أنهى قهوته:
“عليك أن تنتبه، عدنان. ما يبدو كحرب على الكسل أو الفساد، قد يكون مجرد غطاء لتصفية حسابات. إذا كانوا يريدون الإطاحة بك، فهم لن يتركوا أثرًا واضحًا… كن أذكى.”
عاد عدنان ليلته تلك إلى البيت، وجلس أمام مرآته طويلاً. لم يرَ وجهه المعتاد، بل رأى وجه رجلٍ تقوده خطواته إلى متاهة، وعليه أن يقرر من الآن:
هل سيكون مجرد ورقة تُقلب في ملفاتهم؟ أم قلمًا يكتب الحقيقة قبل أن تُدفن؟
ح…05/05/2025