
– متابعة :
سعاد الطود علامة مضيئة في التاريخ الراهن لمدينة القصر الكبير
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: {وَبَشِّرُ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
صدق الله العظيم البقرة 155
حضرات السادة الأفاضل والسيدات الفضلبات أفراد أسرة الراحلة المشمولة بعفو الله ورحمته السلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته.
نجتمع اليوم، وفي هذه اللحظة التأبينية المفعمة بالأسى، التي تحييها أطياف من المجتمع المدني بالقصر الكبير مستحضرين روح الفقيدة الطاهرة وشذرات من حياتها
الغنية بالعطاء والنبل ونكران الذات.
كلمتي هذه ألقيها نيابة عن إخوانى أعضاء جمعية البحث التاريخي والاجتماعي وعنوانها “سعاد الطود علامة مضيئة في السريخ الراهن لمدينة القصر الكبير”. وللتذكير
فإن علاقة الفقيدة بالجمعية ترجع إلى ما قبل سنة 1994، فقد أشادت الراحلة بالجمعية إبآن مشاركتها في التكريم الذي أقامته الجمعية لعضوها محمد بوخلفة في أبريل سنة
1994 كما أن جمعية الأنوار النسوية تغتنمها فرصة لكي تسجل احترامها
وتقدير للمسار الجاد الذي رسم جمعة البحث التاريخي لنفسها في عملها الدؤوب من أجل إبراز خبايا تاريخ المدينة وماضيها الزاخر بالعطاءات ووصل ماضيها بحاضرها في تطلع نبيل نحو غد أفضل .
حقا لقد كانت الفقيدة الغالية شمعة أضاءت جوانب من حياتنا الملأى بالعتمات ، ثم غادرتنا تارکه و راءها سيرة عطرة بما حباها الله من سجايا وخصال ومواهب قلما اجتمعت في غيرها. فكان لها هذا الحضور المشع أدبياً وجمعويا وإنسانيا.
أيها الحضور الكريم:
إن سجل الراحلة حافل بالمكرمات والسجايا ولا تستطيع الكلمات مهما بلغ
أصحابها من قوة البيان إيفاءها حقها في الوفاء والتقدير. إنها أكبر من كل الكلمات
ولعلكم تشاطرونني الرأي في أن الفراغ الذي تركته الراحلة، ليس من الهين ملؤه، لقد كانت رحمها الله نموذجا استثنائيا لا تجود به الحياة إلا عبر فترات زمنية متباعدة.
لم تخلف موعدها مع التاريخ فكانت حياتها وعطاءاتها امتداداً لنساء أخريات عشن في ثرى هذه الأرض المباركة، وربما في هذا الحيز المكاني بالذات، الذي نجتمع فيه “باب الواد”، نساء شهد لهن الناس بالصلاح والتقوى وفعل الخيرات ونلن محبتهم وتقديرهم
وهذه مزاراتهن وقد غطت عدوتي باب الواد والشريعة خير دليل على هذا الحب الممتد.في الزمن وغير خفي أن مدينة القصر الكبير، تعتبر من بين المدن الأولى التي تضم أكثر عدد من مزارات وأضرحة لمتصوفات ووليات صالحات ” رشيد الحور” مثل للا فاطمة الأندلسية في العهد الموحدي، وللا فاطمة بنت أحمد الجبارية المتوفاة سنة 1669م،
التي عرفت بالصلاح والزهد والتقوى، وهي الأولى التي سنت لنساء القصر موسما للاحتفال بذكرى موسم المولد النبوي بزاويتها إضافة إلى وليات أخريات في مجالات مختلفة مثل للا رقية وللا عائشة الخضراء وغيرهن. وفي عهد الحماية برزت نساء أخريات أسسن مدارس لتعليم البنات مثل السيدة عزيزة الأزق سنة 1945، والسيدة شريفة بوسلهام بوحيى سنة 1951م والفقيهة الحاجة خديجة التكموتي زوجة السيد
أبو بكر محمد بنحدو التي فتحت كتابا خاصا لتعليم البنات وتحفيظهن آيات من القرآن بالمجان بمنزلها بحي المطيمر كرمتها جمعية الأنوار النسوية للأعمال الاجتماعية والتربوية والثقافية بتاريخ 14 مارس 1997م. “العسري اقلام 2″
وبالرجوع إلى الولية الصالحة فاطمة الأندلسية التي عاشت في العهد الموحدي وضريحها معروف بمدينة القصر الكبير، اشتهرت بالإحسان والطهر، وهي أولى السيدات المتدينات المثقفات بالقصر الكبير. ويحكى على لساني الدكتور محمد المغراوي ” الذاكرة والحاضر ص .62. وابن الزيات صاحب كتاب التشوف ص. .331 أنها كانت ولية صالحة وزاهدة متصوفة كانت صاحبة فراسة وبركة وكرامات. كان بيتها شبه ناد صوفي يقصده بعض متصوفة عصرها من علماء وصلحاء من فاس وغيرها من المدن وقيل إنها كانت تدرس البنات في مسجد بالقرب من ضريحها ولا غرابة اذن أن تتشابه حياة الفقيدة ومواقفها مع اسم
شامخ من متصوفات القصر الكبير وهي للا فاطمة الأندلسية ونساء أخريات بالقصر وليس في مقدور هذه المداخلة أن تحيط بكل تلك الجوانب التي انفردت بها الراحلة ووسمت شخصيتها بميسم خاص بها.
ومما سبق يظهر أن مساهمة المرأة في القصر الكبير في الحياة الاجتماعية وخاصة في الميادين التعليمية والتربوية والجمعوية لم تنقطع، رغم تعثرها في بعض الفترات وأن ما حدث في التسعينات من القرن الماضي في الميدان الجمعوي خاصة النسوي منه كان إضافة جديدة في هذا الميدان تزعمته بالدرجة الأولى المرحومة سعاد الطود، هذه المرأة العصامية التي اتصفت بعدة جوانب، لا شك أن المتدخلين سيتناولونها، وسأكتفي بالإشارة إلى بعض الجوانب ومنها:
في الميدان الجمعوي النسوي
تعتبر جمعية الأنوار النسوية للأعمال الاجتماعية التي أسستها المرحومة في
تسعينات القرن الماضي من الجمعيات النسوية الرائدة في القصر وشمال
المغرب، وذلك بما أضافته من ترافع على قضايا المرأة بما في ذلك محو الامية
ومكافحة اشكال التمييز ضدها، وانفتاحها الكبير على فئات واسعة من النساء في هوامش المدينة والعالم القروي. وكذا انفتاحها على فضائها الجهوي والدولي. ذلك أن الراحلة كانت قد نذرت نفسها لهذا المشروع، فقد أدركت رحمها الله، وبوعي قل نظيره أن جوهر الإنسان في هذه الحياة قضية يؤمن بها ويسعى جاهدا لتحقيقها، فلم
يشغلها مال ولا بنون ولا مباهج الحياة ومغرياتها عن بلوغ هذا المسعى.
وحددت منذ البداية هدفها ونظرت حولها فوجدت أن الفئة الأكثر ضررا في
مجتمعها هي المرأة وأن وضعيتها المزرية هي أولى الأولويات، فكيف السبيل للنهوض بها. وما هي الآليات التي ينبغي إيجادها لتحقيق كل هذا المسعى.
واهتدت إلى أنه لا بد من إيجاد إطار قانوني ملائم لتفعيل هذا الهدف، وبإرادة
صلبة وعزيمة لا تلين وبتحد نادر المثال تجندت لخلق جمعية تضطلع بهذه المهام
الإنسانية النبيلة، وتم لها ذلك بعد لأي فأطلقت عليها اسم: جمعية “الأنوار النسوية”
ولم يكن تأسيس هذه الجمعية بالأمر الهين فدونه عقبات وعقبات لابد من تخطيها وحددت هدف المؤسسة فى مساعدة المراة خاصة الفئات الهشة عبر محاربة الأمية في اوساطهن ومساعدتهن على اكتساب مهارات يواجهن بها متطلبات المعيش اليومي.
ولبلوغ هذا المبتغى كان لابد من الحصول على مقر لهذه المؤسسة الفتية. ولاشك أن الراحلة عاشت لحظات عصيبة وهي تبحث عن مقر ملائم يلبي طموحها.. واهتدت إلى وجود بناية متلاشية جزء منها كان مقرا لسكنى طلبة المعهد الديني بالمسجد
السعيد والجزء الثاني كان عبارة عن مدرسة يعود تاريخها إلى عهد السلطان مولاي إسماعيل والبناية كلها تابعة لوزارة الأوقاف وبإرادة فولاذية حصلت على البناية.
بيد أن المرحلة الأصعب في هذا المسعى هو كيفية الحصول على تمويل لبناء
مؤسسة جديدة تتوفر على مواصفات مطلوبة في مثل هذه المشاريع.
ولعلها طرقت شتى الأبواب واتصلت بكل من توسمت فيهم القدرة على العمل
الخيري. لا ندري مدى تجاوب الجهات التي قصدتها مع مقصدها الأسمى، وكل ما ندريه أنها تمكنت بمجهودها الخاص من ربط جسور التعاون بين مؤسستها المحلية.بمدينة القصر، وبين منظمة دولية ذات صيت عالمي، فحصلت على تمويل دولي من منظمة إسبانية غير حكومية تسمى CONEMUND التي غطت تكلفة المشروع البالغة حوالي 100 مليون (سنتيم) قدم على دفعات. وقد تم تدشين مقر الجمعية بحضور
منسق المنظمة السيد Jorge Bascuras . بتاريخ 28-12-1995 .
في الجوانب الإنسانية
كانت المرحومة تفضل عدم الإفصاح عن أعمالها في هدا الميدان، ويتمثل ذلك في
احتضان التلاميذ المعوزين في الدراسة وفتح مجال المؤسسة في وجه البنات الفقيرات في الاستفادة من مساهمات الجمعية المتعلقة بتلقينهن بعض الحرف كالخياطة والطرز.
في الجوانب الأدبية:
قد يكون الشعر أحد هذه الجوانب، لكني أوثر أن أترك المجال لغيري ليتحدث عنه ويفصل القول فيه تفصيلا. وحسبي أن أقول تقرأ شعر سعاد الطود فتحس أنك أمام شاعرة مرهفة الاحاسيس سكنها الشعر وسكنته، فهي لا تكتب الأشعار بل الأشعار تكتبها تروم الصمت لكن ما تحياه ينطقها، في صوتها شجن تقول في نص جميل بعنوان: رجوع
تو شحنی آلام حواء
بوزر تفاحتها.
وتشهد الدنيا
على أنني كنت
قبل الهبوط.
يوم الهبوط
بعد الهبوط.
أنوي الرجوع إلى ما تحت الضلع.
في الجوانب التربوية:
لعل ما يثير الانتباه في الجانب التربوي تلك القدرة الخاصة على المزاوجة بين حقلين معرفين مختلفين حقل العلوم الطبيعية وحقل الفلسفة وهو أمر لم نعهده في من عرفناهم من رجال التربية. علاوة على تأثيرها ومساهمتها في تكوين أجيال متعاقبة علميا وأخلاقيا. ولغيري أن يتوسع في ذلك.
في الحوانب القومية:
إن ارتباطها بالبعد القومي وخصوصا بالقضية الفلسطينية ليس نشازا، فقد كان المغرب وما زال مرتبطا بما يحدث في الشرق بما في ذلك مدينة القصر كذلك، وهناك عدة وثائق تثبت ذلك ومنها وثيقة مؤرخة بسنة 1939 ممضاة من رئيس فرع حزب الإصلاح الوطني بالقصر السيد الغالي الطود جد المرحومة من أمها تبرز استقبال ممثل فلسطين
السيد محمد طاهر الفتياني، وإقامة حفل خطابي على شرفه تضمن كلمة رئس حزب الإصلاح السيد عبد الخالق الطريس والسيد الغالي ،الطود، والسيد محمد التكموتي
وجمعت في آخر الحفل تبرعات القصريين للفلسطين ، علاوة على سفر الهاشمي الطود إلى مصر سنة 1945 ومشاركته في حرب فلسطين سنة 1948، وكذا زيارة محمد الخامس
للقدس رفقة ملك الأردن سنة 1960. فتوجهها القومي إذن له جذور وطنية ومحلية وأسرية.
في الجوانب الصوفية:
كانت المرحومة تحفظ الكثير من الأذكار الصوفية أي ما اصطلح عليه بالمولوديات تتليها أثناء إحياء المواسم الدينية في المولد النبوي بالقصر الكبير.
وفي الجوانب الجمالية والأخلاقية
كانت المرحومة متميزة في هندامها ووقفتها وابتسامتها الدائمة وسلوكها المتزن.
في الجوانب الثقافية:
كانت تمثل المرأة القصرية المتحضرة المتميزة بإتقانها لثقافة الاختلاف وأدب الحوار وارتباطها بتاريخ مدينتها وقدرتها على استحضار المعلومة، برز ذلك أثناء مشاركتها جمعة البحث التاريخي والاجتماعي في البرنامج التلفزيوني ” كان يا مكان ،،حول مدينة القصر الكبير
ومعركة وادي المخازن سنة 2017.
أيها الحضور الكريم:
إن سجل الراحلة حافل بالخصال الحميدة اجتمعت فكونت عطاء متناغما اسمه سعاد الطود خلوقة ومتواضعة وديعة كريمة أبية جادة حازمة تفرض عليك احترامها مهما اختلفت معها مقنعة في خطابها.
فطوبى لك أيتها الراحلة جسداً، والحاضرة ،روحاً وتغمدك الله بواسع رحمته، وأسكنك فسيح جناته وصدق رسول الله: في قوله ” من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة”.
نجدد العزاء للأسرة الكريمة ولكافة المحبين والسلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته