
حلقات رمضان وكتاب: رحلة في الفكر والتأمل
الفلسفة السياسية النسوية سؤال السيادة والكونية في فكر سيلا بنحبيب
من تأليف :د عزيز الهلالي
- الحلقة 23: نقد النظرية النسوية للفضاء العمومي الهابرماسي
أجمعت النظرية النسوية بجميع تياراتها، على أن كتاب “تحولات الفضاء العمومي” لهابرماس يؤمثل (Idealization) معايير الوحدة والشمولية التي تقوم عليها الكونية الليبرالية. وهذه دعاوى تخفي خلفها جوانب هامة من الممارسات الاقصائية، لأنه لا حياد مع كونية تستقي عناصر منظوماتها من النظرية السياسية الحديثة تقوم على الفصل بين العام والخاص، بين النسق والعالم المعيش، بين الكونية والخصوصية، بين العقل والرغبة، بين الطبيعي والمدني وبين الرجل والمرأة…
سعت النظرية السياسية الحديثة، منذ هيوم إلى هيغل، إلى الإقرار بأن الحياة الإنسانية بمنأى عن الخاص، إذ لا لزوم – كما يرى روسو – للانفعال والرغبة والاحتياج. فالعقد الاجتماعي، كإرادة عامة، لم يهتمبالنوع كفضاء خاص. ومن ثمة، فإن العقد الجنساني (Sexual Contract) كتحالف وظيفي وكملحق للعقد الاجتماعي، لاحق المجال الخاص لينظم العلاقة الزوجية تحت قواعد الخضوع والسلطة والإكراه.لا يرقى العقد الجنساني إلى مستوى النظر الفلسفي والنظري لفلاسفة الحداثة، لا لشيء سوى لأن المجال الخاص لا عقلاني ومتوحش ويتميز بالقصور. إذا كان العقد الاجتماعي يعكس “تاريخ الحرية” الذكورية، فإن العقد الجنساني يعكس “تاريخ خضوع” الأنثى.
لم تكن فلسفة هيغل بمنأى عن هذا التوصيف للمجال الخاص. فالدولة كطبقة كونية تجسد تعبيرات حيادية ضد الانحياز الذي يلاحق الخاص ويتعارض مع الإرادة العامة ومصالح الوحدة الاجتماعية. فقوانين الدولة تتجاوز الإطارات الضيقة والمساحات المتقطعة والهوامش الصغرى والرغبات الخاصة للبلوغ نحوكونية الروح والوحدة العقلانية.
إن النظرية النسوية، في تحليلها لهذا التقسيم (الفضاء العام في مقابل الفضاء الخاص) تتساءل عن “حياد”هابرماس أمام سيادة المعيار الكوني الليبرالي،الذي ينتصب في وجه الرغبة والعاطفة،من أجل ممارسة إقصائية للمعالم العاطفية والرغبات الجسدية بوصفها تتعارض مع الفضاء المدني ومع وحدته العليا،على اعتبار أن النسوة “حارسات الوجدان والرغبة والجسد”.
وإذا كان الفصل بين العام والخاص أو بين الدولة والعائلة هو مشروع النزعة الليبرالية الأبوية، فإن هذا الفصل لم تسلم منه النظرية الماركسية لما فصلت بين العائلة والاقتصاد، وبذلك تكون الماركسية قد “خلقت عائقا على مستوى فهم تاريخ النوع”.
هذا الاختزال للتاريخ أو التستر على قضايا النوع بدعوى لاعقلانية الخاص، هو ما جعل الحركة النسوية الأكاديمية تقوم بنبش في طبقات الخاص للإجهاز على التصنيفات الجوهرية بين العام والخاص، بدعوى أن البنية الاجتماعية الليبرالية هي بالأساس مشكلة سياسية. وفي هذا السياق، رفعت الحركة النسوية شعار “ما هو شخصي فهو سياسي”. وتروم إستراتيجية هذا الشعار، وضع الخاص وإشكالاته (تربية الأطفال، العنف المنزلي، الإجهاض، الشؤون المنزلية…) في قلب جدول الأعمال التي تهم المناقشة العمومية والإصلاحات التشريعية. وتحت هذا الشعار اندرجت أعمال كبرى للمنظرة السياسية ميشيل روزالدو(*)(Michelle Rosaldo) من خلال كتابها الذي يحمل عنوان “المرأة، الثقافة والمجتمع: لمحة نظرية عامة”(Woman ;Culture and society :A theoritical Overview). في هذا العمل، نشير إلى أن مفهوم العام دخل لأول مرة إلى معجم النظرية السياسية النسوية. وقد حاولت روزالدو أن تخلخل العلاقة الوهمية بين الخاص والعام، حيث اقترحت تفسيرا أو “نموذجا بنيويا… يخص طبيعة التعارض بين التوجه الخاص للمرأة والتوجه العام الذي تعطى فيه الأولية في معظم المجتمعات للرجل”.