هل يمكن فهم الحياة؟

19 مارس 2025

د. عبد السلام دخان

حين نلامس الحياة، ماذا نجد في جوهرها؟ أهي نسغٌ صافٍ يتدفق بلا انقطاع، أم أنها شجرة أصابها العطبُ وتكاد تجفّ جذورها؟ كيف تسلّل السقم إلى نسيج الوجود حتى غدا هشا، وكيف تلاشت اليوتوبيا، تاركة خلفها إنسانا محاصرا بالأرقام، محكوما بمنطق الشاشة، مقطوعا عن جوهره؟ أين ذهب أحبّتنا الذين اختُطفوا غيلة، وكيف تحوّل الجسدُ، الموطن الأول للكينونة إلى مجرد كيان واهن، غير قادر حتى على غرس شجرة الاستعارة في حديقة الصباح؟ لكن، هل يمكن فهم الحياة حقا؟ أيّ أفق يمكن أن يَسبر طبقاتها الخفية، ليكشف عن بنيتها العميقة؟ أهي تدفق ناعم كما يصفها الشعراء، أم أنها مسيرة وعرة، متاهة مليئة بالمتاريس، امتحانٌ دائم بلا يقين؟ وإذا كانت الحياة تجربة متعددة الأبعاد، فهل يمكن بناء اقتصاد يُساير حاجاتها المادية والروحية دون أن يسحق جوهر الإنسان؟ ما معنى أن يكون الإنسان في عالمٍ صار العقل فيه عبئا بدل أن يكون أداة تحرر؟ كيف انهارت الترانسندنتالية المثالية للعقل، وتحوّل الفكر إلى مجرد “دوكسا” محكومة بأنساق التفاهة؟ لماذا لم يعد التنوير وعدا بالخلاص، بل صار جزءا من الأزمة، بعدما التهمته مركزية غربية لم تفعل سوى تعزيز نزعة تدميرية طاغية؟ هل فقدنا الحسّ السليم لأن العالم صار يُدار بمضادات الأمل، بآليات تُعمّق الاعتلال النفسي بدل أن تسعى إلى تجاوزه؟ هل يمكن للإنسان، في ظل هذا الانهيار، أن يستعيد حواسه الأولى، أن يُدرك عطر الحب، وجدوى الأسرة، ودفء العائلة؟ أم أن هذه التجارب اليومية تحوّلت إلى مجرد طقوس خاوية، مفرغة من المعنى، تُعاد بلا روح؟ كيف أصبح بإمكان ما هو متناهي الصغر، مجهري، أن يهدد الحياة كلها، أن ينفيها إلى العدم الأسود؟ أليس في ذلك مفارقة تكشف هشاشة الإنسان، رغم ادعاءاته المستمرة بالسيطرة على العالم؟ هل يحتاج الإنسان اليوم إلى مجرد علاج نفسي، أم إلى إعادة بناء علاقته بالعالم؟ إذا كانت الأرض، كما وصفها كانط، وطن الجميع، فلماذا أصبح الانتماء صعبا، والوجود مشروطا بشروط لا يفهمها أحد؟ هل يمكن ان يكون العيش الاستعراضي بديلا عن الشعور بالاغتراب على شاكلة “البير كامو”، أم أن كل البدائل المطروحة ليست سوى أوهام تُعيد إنتاج الأزمة؟
“أرونداتي روي” ترى أن لا شيء يمكن أن يعود إلى طبيعته، لكن هل يعني ذلك الاستسلام؟ أم أن علينا البحث عن صيغة جديدة للوجود، تُمزج فيها نقاوة الروح الصوفية بإرادة المحارب الذي لا يخشى التحدي؟ هل يمكن، وسط هذه الضوضاء، أن نحيا كما لو كنا وحدنا، نصنع خطوتنا الخاصة، كما أوصى ماياكوفسكي: “أمشي مع الجميع، وخطوتي لوحدي”؟ هل يمكن أن يكون العيش في السفح أكثر أمانا من صعود التل؟ هل يمكن التخلّي عن الحق في الحلم، لمجرد تجنّب السقوط؟ أليس في التخلي عن الحوار قبولٌ ضمني بالعدم؟ كيف يمكننا، وسط هذا التيه، أن نعيد بناء المعنى، أن نُقيم جسورا جديدة بين الإنسان ونفسه، بينه وبين الآخر، بينه وبين العالم؟ ربما يكون الحبّ، في جوهره، أكثر من مجرد عاطفة، بل هو إمكانٌ للاندماج من جديد في نسيج الحياة. فهل يمكننا أن نجد في دفئه ترياقا ضد هذا التفتت؟ وهل يمكن لهذا الدفء أن يمنحنا القدرة على العيش، لا ككائنات تائهة في دوامة الاستهلاك، بل كذوات تبحث عن المعنى، وتصنعه؟

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Breaking News

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading