نوستالجيا الأمطار

13 مارس 2025
Oplus_131072
  • بقلم : زكرياء الساحلي :

قال لي صاحبي: (ملي كثرت الإنذارات ها البرتقالية ها الحمراء الصادرة عن مديرية الأرصاد الجوية فقدت السماء بركتها وشح المطر)
تذكرت ونحن صغار، لم نكن نسمع شيئا عن أحوال الطقس بمدينة القصر الكبير، بل لم تكن المدينة تُذكر في التلفزة بأي حال من الأحوال.
كان السكان يتهامسون بمرارة عن إقصائهم من الإعلام العمومي، ولا تتذكر ذاكرتهم سوى حالتين فقط سُمع فيهما اسم القصر الكبير على شاشة التلفاز؛ المرة الأولى في خطاب الحسن الثاني عام 1984، حين نعت سكانها بـ”الأوباش”، والمرة الثانية عام 2000 عندما اصطدم قطار بجرار فلاحي، مما أدى إلى مقتل 37 فلاحا من أبناء المنطقة، وأجزم أن الخبر لم يكن ليُذاع في التلفزيون المغربي لولا إقدام العاهل الإسباني “خوان كارلوس” على تقديم برقية تعزية لنظيره الملك محمد السادس، وهو ما سلط الضوء على المدينة.
كانت الأعين تترقب في كل مساء الراحلة “سميرة الفيزازي” وهي تقدم تقارير الطقس، متحدثة عن المنخفضات والمرتفعات الأزورية ونسب التساقطات اليومية، ورغم أن سماء القصر الكبير لم يكن يتوقف فيها هطول المطر، إلا أن اسمها لم يكن يُذكر قط، وكان الاعتقاد السائد أن مدينة العرائش “تسرق” إنجازات القصر الكبير في هذا المجال، ومن هنا بدأ حقد القصراويين على هذه المدينة الجارة، فكانوا يُفرغون غضبهم على شاطئها كل صيف تعبيرا عن هذا الحيف.
لم يكن يخطر على بال المسؤولين، آنذاك، إصدار قرارات توقيف الدراسة بسبب تساقط الأمطار الغزيرة والمستدامة لعدة أسابيع، فالأحوال الطبيعية لم تكن ذات شأن لإتخاذ مثل هذه القرارات الكبرى، أتذكر أن قرار التوقف عن الدراسة جاء بسبب عبور سرب من طائرات الأمريكية للأجواء القصراوية للمشاركة في حرب الخليج الثانية الهادفة إلى تحرير دولة الكويت من يد صدام حسين.
عندما كنا نسمع أن نهر اللوكوس قد فاض، كنا ننتقل زمرا إلى ضفافه للتأكد من حقيقة الأمر، فنجد عشرات من الناس تتجمهر بين ضفافه كأنهم ينتظرون علامة غيبية بشرهم بها “عبد الرحمن المجذوب” فيتداولون ما نُسب إليه من أقوال:
يقول أحدهم: “في الشتا مغروقين، وفي الصيف محروقين.”
فيرد آخر: “هلاك القصر عيجي من جبل صرصر.”
ويتدخل ثالث مؤكدًا: “السد مبني بحجارة جبل صرصر.” وكأنه يشير إلى حتمية انهيار السد تحقيقا لنبوءة المجذوب.
أما نحن الصغار، فكنا نفرح بهذه التساقطات ليس بسبب مردودها الفلاحي، بل لأنها كانت توفر لنا ثلاث ألعاب رئيسية مرتبطة بفصل الشتاء:
“ركيزة”: حيث كنا نرسم ستة مربعات على الأرض الطينية ونركز فيها قضيبا حديديا، وكل مرة نحاول غرسه في مربع مختلف، والخاسر هو من تسقط عصاه بعد فشله في تثبيتها.
“زحليقة”: وهي لعبة شبيهة بالتزلج على الجليد، لكننا كنا نتزلج على الوحل، والفائز هو من يقطع أطول مسافة دون أن يحرك قدميه.
تربية “بوزريويطة”: حيث كنا نرعى الشراغف في برك مائية شكلتها الأمطار، ويخصص لكل طفل في الحي وحدة طينية في البركة المائية يشرف فيها على كل مراحل تحول الضفادع مباشرة، ودون الحاجة إلى الرجوع إلى كتاب النشاط العلمي.
ذات يوم، قرر المجلس البلدي “تݣصيص” الحي، أي تغطيته بالإسمنت، محولا الأرض الطينية إلى سطح صلب، اعتبرنا القرار جائرا في حق طفولتنا، وتوسلنا إلى عمال البلدية أن يتركوا لنا جزءا من الأرض الطينية لنكمل لعبتنا المفضلة “ركيزة”، لكن توسلاتنا كلها باءت بالفشل.
وبعد إلحاح شديد، وافق المشرف على العمال على ترك بضعة أمتار لنا للعب، قبلنا بالأمر على مضض ، رغم أن المعدات الثقيلة التي جلبتها البلدية جعلتنا نشعر وكأننا هنود حُمر يقاومون غزاةً قادمين للاستيلاء على أرضهم.
لكن، وفي الأيام الأخيرة من الأشغال، باغتنا المشرف على العمال أثناء وجودنا في المدرسة واستولى على المساحة المتبقية، مغطّيا إياها بالإسمنت. شعرنا بالغدر، ومنذ ذلك الحين فقدنا الثقة مبكرا في قرارات المسؤولين عموما والبلدية خصوصا ووعودهم للمواطنين، فقد يغدرون باتفاقياتهم عند أول منعطف.
وردا على هذا الغدر شكلنا نحن الصغار عصابة “روبن هود”، وقمنا بالسطو على عدة معدات تابعة للعمال، بل وصل بنا الأمر إلى تفجير إحدى عجلات سيارتهم المرابطة في الحي، انتقاما لألعابنا المبتورة.
أجبت صاحبي (ملي ضاعت الأرض الطينية ضاعت بركة السماء)
……
*ومال برج ايفل أحسن منا أولااا

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Breaking News

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading