
– بقلم : زكرياء الساحلي .
في ذلك العام، ومع أول أيام رمضان، كان الازدحام يزداد عند محلات بيع الحلويات والمخابز وبائعي الفواكه المجففة والطازجة، ومن المنازل تفوح روائح الحريرة والطاجين وصفارات الكوكوتات وكأن شهر رمضان أضحى شهر شهوة البطن بامتياز.
كانت شوارع القصر الكبير تفرغ تدريجيا لصالح تجمعات عائلية حول مائدة الإفطار، ومع اقتراب آذان المغرب، تحولت الأسواق إلى فضاءات شاحبة يسودها الصمت والترقب.
وفي هذا التلاشي هرول “إلياس” إلى منزل والديه، حاملا معه كيسا صغيرا يحتوي على رغيف وحليب وتمر اشتراهم على عجل.
تأخره في أزقة المدينة جعله يدرك أن اللحظات الأخيرة قبل الأذان هي سباق ضد الزمن، هرول مسرعا، لكن تكبيرات الأذان أدركته قرب سور الموحدين، ذلك الجدار العتيق الذي ظل شاهدا على أجيال كثيرة من الناس لأزيد من ألف سنة ليصبح في الأخير حائطا يعج برائحة البول والأزبال.
رفع إلياس رأسه ليرى صومعة البنات تتوهج بنور خفي ينبعث داخلها. هو يدرك أن بعض النساء اللواتي فاتهن قطار الزواج يتوجهن إلى هناك، يعلقن ملابسهن الداخلية على جدرانها المهترئة ويوقدن الشموع من أجل فك العكوسات التي تمنعهن من الحصول على فارس أحلامهن، ومن هنا سميت الصومعة بصومعة البنات.
لكن هذا الضوء لم يكن عاديا بدا كثير التوهج وشق ظلام المكان إلى نصفين، وفي اللحظة ذاتها، اهتزت الأرض تحته اهتزازا خفيفا، كأن المدينة القديمة تلفظ شيء ما ظل لمدة طويلة جاثما في قلبها.
فرك عينيه من هول الصدمة وهو يشاهد مجموعة من الأطفال الصغار يخرجون من الصومعة، وبعضهم من بين شقوق برزت فجأة بسبب الاهتزاز، لم يكونوا أطفالا عاديين بل مخلوقات غريبة، قصيرة القامة لا يتجاوز طول الواحد منهم المتر الواحد، يمتلكون قرونا ملتوية مثل الضأن، ويلبسون جلودًا مفروكة بلون الأرض.
كانوا يرقصون بفرح غريب، يرفعون رؤوسهم إلى السماء مستمتعين بذلك الضوء السماوي الأحمر المنبعث من غروب الشمس.
تجمد إلياس خلف السور، بدت عيناه جاحظات ورئتاه تتنفسان بسرعة وخيفة، لوهلة ظن نفسه قد أصابه الجنون، أو أن أثر الصيام قد عبث بعقله، ثم ظن أنهم من بني الجن لكن لم تنفع معهم ما دمدم به من أيات، وما زاد من هول صدمته أنه رأى فتاة تخرج من ضوء بنفسجي خافت منبعث من تحت الصومعة، كانت فتاة جميلة ترتدي توبا أبيضا، بشرتها الناضرة زعزعت فؤاده، وشعرها الأسود الطويل المنسدل على كتفها اليمنى جمد الماء في ركبتيه.
رفعت يديها بحركة آمرة، فخفتت أصوات الأطفال، ثم تحدثت بصوت هادئ لكنه ممتلئ بالسلطة:
– يكفي! عودوا فورا إلى تحت الأرض، البشر سيعودون قريبا لحياتهم الطبيعية، لا يجب أن يكتشفوا أمرنا.
تراجع الأطفال بسرعة، فبعضهم اختفى في الصومعة، وآخرون انسلوا في شقوق الأرض التي عادت إلى سابق عهدها، وبينما إلياس كاتم أنفاسه، التفتت المرأة ببطء، كأنها شعرت بوجود شيء مريب، وفي لحظة تلاقت أعينهما، فزعت منه كما فزع منها، ففرت هاربة بسرعة تحت الصومعة ليختفي كل شيء فجأة كما بدأ فجأة