
زكرياء الساحلي
في قلب سوق للا عيشة الخضراء، حيث تتداخل روائح التوابل والخضروات والمخبوزات الطازجة بنداءات الباعة أصحاب “الكراريس” المصفوفة على طول الشارع، من خاصة المنار إلى سوق الحنة، كان هناك سوق لا يُفتح إلا ليلة واحدة في السنة، يُسمّى “سوق الأرواح”.
يُقال إن هذا السوق لا يراه إلا مبتورو الأرواح، أولئك الذين فقدوا شيئا عزيزا عليهم، شيئا خلّف فيهم ألما يسري في عروقهم كسمّ لا علاج له مهما طال الزمن، يدفعهم إلى البحث عن أشياء ضائعة، حتى لو كانت مجرد شظايا من ذكرياتهم المشتّتة.
أما الآخرون، فلا يرونه سوى بوابة صدئة منصوبة على حائط قديم، لا ينتبهون إليها مهما مرّوا بقربها.
في ليلة مقمرة من صيف قائظ، كان “عبد الرزاق” يتجوّل بلا هدف في المدينة، يسائل نفسه، أيّ قوة هذه التي أخرجته من منزله قبيل بزوغ الفجر؟ هل هو القدر؟ أم أن ثقل الهموم صار أكبر من أن يتحمله وحده بين جدران غرفته؟ كل ما كان يعرفه أن فراغا شاسعا يسكنه، فراغ يأكله بلا هوادة، يوقظه من نومه كجاثوم يخنق أنفاسه، يسائله كل ليلة عن سبب تشبّثه بالحياة.
لكن هذه الليلة، بدا وكأن شيئا مختلفا يدفعه للخروج مجددا، شعر بجسده يتوقف عند زقاق لم يره من قبل، باب حديدي قديم فتح من تلقاء نفسه، وكأنّه يدعوه للدخول، لمح داخله أضواء مصابيح بعيدة وجوقة من الناس تتجوّل داخله، كأنه باب يفضي إلى سوق أسبوعي من زمن قديم.
ولج بخطوات حذرة، مستكشفا المكان، ليجد نفسه في فضاء فسيح، خيام وأكشاك متفرقة على دروب ضيقة، مزينة بمصابيح ملونة تضيء بنور غريب لا مصدر له، أما البائعون، فلم يكونوا بشرا تماما، بعضهم بلا ملامح، وآخرون بعيون متوهجة في الظلام، وعلى طاولاتهم برطمانات زجاجية شفافة، تتوهج بضوء خافت.
تساءل عبد الرزاق في قرارة نفسه “أين أنا؟!!!”
جاءه الجواب سريعا من صوت خافت لبائع بلا ملامح، طلّ عليه من خيمة سوداء بالية، بدا كأنه شيخ مسن:
– أنت في سوقٍ الذكريات فيها هي البضاعة، وروحك فيها هي الثمن.
سأله عبد الرزاق بتعجب.
– وما هذه البرطمانات؟
– إنها ذكريات، أصوات، أحاسيس، وأرواح مفقودة، هل تريد أن تجرّب؟
وقبل أن يجيب، فتح البائع بسرعة برطمانا صغيرا وقال:
– استنشق هذا الضوء.
وما كاد يفعل، حتى شاهد نفسه طفلا صغيرا، يلعب مع أقرانه أمام دارهم القديمة، تذكر أبناء حيه وأحس بسعادة بالغة، لكنها سرعان ما انقطعت، وعاد إلى الخيمة قرب البائع.
أراد معاودة الكرّة، لكن البائع رفض، مذكّرا إياه بأن البرطمانة الأولى هدية، أما الثانية، فعليه أن يدفع جزءا من روحه ثمنا لها.
لم يتمالك نفسه، وبدأ بفتح البرطمانات الواحدة تلو الأخرى، وكلّما فتح واحدة، استعاد لحظة من ماضيه؛ أول نجاح له، تخرجه من الجامعة، حبيبته الأولى، زواجه، طلاقه… إلى أن فتح برطمانا كبيرا، فوجد نفسه بين أحضان والدته، التي منذ رحيلها كان يشعر بأن جزءا كبيرا من قلبه قد اقتُلع، سمع صوتها الذي رنّ في أذنيه، فابتهج قلبه، وتذكّر كم كان متعلّقا بها، وأن حياته بدونها لا تساوي شيئا.
بتنهّد قال:
– آه يا أمي، لو تعلمين كم قاومت حتى لا تتشوّش ذاكرتي بالبياض، وأنسى ملامحك، آه يا أمي ضمّيني إلى جناحيك كما كنتِ تفعلين دائمًا…
اِنهمرت دموعه بغزارة، واجتاحه ألم الفقدان، أراد أن يظل معها مجددا، ألا تكون مجرد صدى في سوق غامض.
جاءه صوت البائع من بعيد:
– وحتى لهذه الأمنية ثمن.
في الصباح الباكر، عثر عمال النظافة على جسد عبد الرزاق ممددا قرب باب حديدي صدئ، كان وجهه هادئا كأنه نائم، لكن الدموع الجافة على وجنتيه كانت تحكي قصة مختلفة.
نظر أحد العمال إلى الحائط فوق البوابة، فشاهد جملة مكتوبة بخط باهت:
“الرجل الذي قتله حزنه.”