من وحي تاريخ جبالة المنسي “ولدحميدو”

10 أكتوبر 2024
Oplus_0

——ذة : حنان قدامة —-

في ذلك اليوم الشّتوي من شهر فبرايرتجهمت سماء الحمامة البيضاء ،غشيتها سحب سوداء نعت إلى الوطن وإلى منطقة جبالة احتلال حاضرة الشّمال . لم تحل أبواب “تطوان” السبعة العتيقة ولا جبالها الشاهقة المتسلّقة حبال النّجوم بين أن تسقط أسيرة ،جريحة في يد الجنود الإسبان
هبّ ثوار جبالة المجتمعون في قبيلة “الأخماس “ودار “بن قريش” إلى نجدة المدينة وأحوازها . .
سمعت روابيها حوافر خيولهم العاديات وهي تدكّ الأرض الحزينة كما شاهد ت مروجها ركب فرسانهم ، زاحفين مدافعين عنها، حاملين الرايات البيضاء والخضراء ،يتقدمهم فارس بني عروس ومنطقة جبالة “ولد حميدو” ــ محمد بن أحمد الخرازـ خليفة الشريف الرّيسوني ـــ معمّم الرّأس بعمامة بيضاء، متسلّحا ببندقية خماسية ذات ماسورة طويلة، لم يستطع الغبار المتصاعد من الأرض أن يحجب بريق الدّهاء الذي يشعّ من عينيه . . كان ثوّار جبالة مدركين للفوارق بينهم وبين جيش إسباني نظامي فالتجأوا إلى “تكتيك” حرب العصابات ووضع الكمائن من أجل استنزاف الجيش الإسباني وتكبيده خسائر فادحة . .
مع توالي المعاركـ ـ إثنتا عشر معركة ـ وارتفاع الخسائر في صفوف الجيش الأسباني وقعت ّإسبانيا هدنة مع الثّوار حتى تلتقط الأنفاس وتحافظ على موقفها المحايد من حرب عالمية ملتهبة . . بعد توقيع الهدنة التي تم رفضها من طرف بعض القبائل الجبلية عاد “ولد حميدو “إلى مدشره الصّغير “السكا ن ” الذي يغفو بين أحضان جبل العلم ويطلّ على غابات الصّنوبر السّندسية ،تربّصت بعودته شقيقته “عائشة” مبادرة إيّاه بسؤال ملّح : ـــ لماذا وقعّ الشّريف الرّيسوني والثّوارهدنة مع الاصبانيول . دون أن يلتفت إليها أجابها موضّحا

ـــ اطمئنّي …هي هدنة مؤقتة ستمكّننا من إعادة تنظيم صفوف المقاومة . صمت” ولد حميدو “برهة ،تنهّد فيها تنهيدة ملؤها الأسى قبل أن ينظر إلى شقيقته قائلا : فلتعلمي ياعائشة أنّ الحكمة في الكياسة والحيلة في السّياسة .
لم تستوعب “عائشة” كلام أخيها فأسكتت مرغمة صخب الأسئلة الذي يعلو في أعماقها ثم انهمكت في تنظيف البندقية وهي ترجو إفراغ رصاصاتها قريبا في صدر الجنود الإسبان .
لم يطل رجاء “عائشة ” فقبل نهاية الحرب العالمية بشهور معدودة تمّ خرق الهدنة وشرعت إسبانيا في الزّحف على بلاد جبالة التي توافد على معقلها ضريح “مولاي عبد السلام بن مشيش “العديد من الزّعماء الجبليين من أجل تدارس وضع المقاومة وتجديد البيعة للشريف الرّيسوني . . كان الجوّ ماطرا يومها في بني عروس، حالت أمطاره الغزيرة بين حضور بعض زعماء المداشر ،لم يبعث طوفان المطر حزنا لجبالة بل بعث فرحة كبرى تجلّت في قرار استئناف القتال . .
وفي الصّباح العروسي الباكر الذي لا يحتاج الاستيقاظ فيه إلى منبّه حمل “ولد حميدو”بندقيته ،امتطى فرسه وانطلق يطوي الأرض طيّا من أجل إبلاغ باقي زعماء جبالة قرار استئناف الحرب . ظلّت “عائشة “تترقّب عودة أخيها ،لم يهدأ لها بال حتى سمعت صهيل فرسه ورأت ابتسامته المشرقة التي زفّت لها نجاح المهمّة . لم تتمالك الجبلية نفسها فأطلقت زغرودة ردّد صداها مدشر السكان . زغاريد عائشة كانت تصدح في كل انتصار يحرزه الجبليون ، صدحت أكثر يوم التحق العديد من فرسان الرّيف ــ ـقبيلة بني يطفت ـــ المنتمين للزّاوية الوزّانية بصفوف الثّوار مما جعل الإسبان يسعون إلى استمالة “ولد حميدو “الرّجل المحبوب والمؤ ثر في المنطقة حتى يتفرغوا ويسهل عليهم احتلال مدينة “شفشاون ” . . رفض الثعّلب العروسي جميع المغريات، فاستمر القتال وتمكّن الجيش الإسباني من السّيطرة على مدينة “شفشاون “بعد سقوط ” دار الضّمان ” وزّان في يد الاحتلال الفرنسي لتنطلق بعدها العمليات الحربيىة وتقصف المداشر الجبلية الثائرة ــ خصوصا بعد معركة أنوال المجيدة ــ بغاز الخردل وقنابل إكس التي أحرقت البشر والحجر والشجر ولم تسلم من لهيبها الأسواق العامرة ولا الأشجار المثمرة . . لم يهتزّ الجبليون ،ظلّوا ثابتين ثبوت جبل العلم فسارعوا إلى وضع مشاعل النار فوق الجبال إيذانا بالنّفيرالعام الذي ألهبته خطب المساجد . زحفت القوّات الإسبانية على مدشر “السكان” في غياب زعيمه وفارسه “ولد حميدو” الذي كان يتولّى الدّفاع عن مدشر” أفرنو” ببني عروس ،نابت عنه شقيقته في الذود عن القرية إذ انهمكت مع المقاتلين رجالا ونساء في تغطية الكلاب بالسّلاهم لتضليل العدّو ودحرجة الصّخور وصب الماء المغلي لمنع تقدمه لكن ذلك لم يحل دون سقوط المدشر في يد الإسبان واستلائهم على منزل “ولد حميدو ” بعد طردهم لعائشة . التقى الشقيقان في عاصمة بني عروس” تازروت” وشرارة لهيب الغضب تشتعل في صدرهما ،سالت عائشة شقيقها بلهجة منكسرة تستعطف عزا : هل اقترب موعد استسلام جبالة ؟ أشاح وجهه عنها وهو يتمتم : ـــ والله لولا أنّ الحوت يأكل الحوت ما دخل جيش الصبانيول بيت العنكبوت . ـــ وكأنّها تحدّث نفسها همست : ــ ــ كم هم مؤلم أن يرفرف علم الصّبانيول فوق جبل العلم بنبرة حازمة ارتفع صوت “ولد حميدو” . ـــ لن نسلّم يا عائشة في شبر واحد من أرضنا حتى نتخبّط في دمائنا . صدق وعد الفارس ،تخبّط في دمه في معركته السابعة والأربعين وهو يدافع عن مدشر “السّلالم “ببني عروس ،حملت عائشة جثمان أخيها ودفنته في ثرى جبل العلم المضيئ حيث باركت استشهاده ،كفكفت دموعها وعادت إلى صفوف الثّوار الذين حاصرتهم اسبانيا من كلّ الجهات وشرعت في نزع سلاحهم .أبت الفارسة تسليم سلاحها وحينما طوقّها الجنود الإسبان، صوّبت بندقيتها إلى صدر الضّابط “خوسي فالديفيا “فأردته قتيلاّ لتهرب و تلوذ بضريح “قنديل جبالة “مولاي عبد السّلام حيث أتاها خبر سقوط المنطقة بعد أن لعلع وطرطق البارود في عقبة غزاوة “معركة ” أسردون 1927″ لتنوح “عائشة “وتسمع جبال جبالة “عيّوعا جبليا شجيّا ،عيّطت فيه على شموخ أخ شهيد ونادت فيه على حرّية وطن أسير، أجاب نداءها فقط صوت الملتاعين لتظلّ على تلك الحال حتى لبّت نداء ربها “1947 “قبل أن تهبّ على المغرب رياح الاستقلال النّواسم . حنان قدامة في 07.اكنوبر 2024 ..

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading