ذة. سمية نخشى
(بين حقيقة الأسطورة ووهم الواقع)
تعلمنا و نحن طلبة ضمن المبادىء الأولى للمنطق الصوري الآرسطي ان النقيضان لا يجتمعان ، فإما حق أو باطل و الثالث مرفوع، واستوعبنا مع الدروس الأولى للفلسفة أن الأسطورة وهم و خيال وهي نقيض الواقع و الحقيقة معا . ثم أقنعني باولو كويلو في قصة الخيميائي ( l’alchimiste ) أن الأسطورة ليست وهما و لا خيالا بل واقعا و خيارا، و أن لكل انسان أسطورة عليه إن يعيشها حتى النهاية ، و قبل ذلك عليه إن يكتشفها و يتعرف عليها داخل ذاته، ثم يتبع مساراتها سعيا لتحقيق معنى وجوده في أي زمان و في كل مكان.
ليصدمني الواقع بظاهرة اقتربت منا كثيرا هي: الانتحار الذي ارتفع مؤشره ، تعددت و تواترت حالاته ودق ناقوس خطره و قد تداخلت واجتمعت فيه كل المتناقضات، فاصبح ضمنها الواقع وهما ، الحقيقة سرابا و تخلى فيها الإنسان عن أسطورته، تنازل عن آماله و أحلامه لينحاز في لحظة معينة لقرار يعارض به الفطرة و منطق الحياة المحكوم بغريزة حب البقاء ، إن كانت هي الغريزة الاصلية التي نحملها معنا منذ الولادة ، و هي الضامنة لاستمرارية النوع البشري.
فمن أين يستمد الإنسان( المنتحر) القدرة على إلغاء هذه الغريزة ، إعدام واغتيال الحياة منتصرا للرغبة في الموت، متمكنا من فك شيفرتها وقابضا بيد من حديد على آلياتها.
كيف يتمكن ، في لحظة ما من تملك مفاتيح السلطة و ميكانيزماتها ، فيصبح قاضيا ، جلادا و ضحية، إذ يقرر و ينفذ ثم يحمل المجتمع بأسره وزر و مسؤولية موته .
كيف يتوفق في استئصال وجود بات يضطهده متنازلا عن روابطه ووشائجه الأسرية و العائلية. ، كيف يستبيح دمه .
هل هي لحظة ضعف أم أوج القوة أن يختار الإنسان نهايته ، هو الذي لم يختر البداية ، إن يعزم على الرحيل و يرجح كفة الغياب.
هل الانتحار هو تملص من المسؤولية أم إخلاء لها، هل هو هروب من الواقع أم لجوء للاسطورة. الا يمكننا اعتباره شكلا من أشكال الأسطورة اختارها و يعيشها الإنسان العاجز عن التأقلم مع واقع أو ظروف معينة ، فيتمكن في الاخير من إخراج و صنع نهاية أسطورية لا يجرؤ عليها إلا إبطال من طينة خاصة ، هزمتهم الحياة ، فانتصروا عليها بالموت و لسان حالهم يقول : “هزمتكم جميعكم يا من خنتم عهدي وودي ” .
فلماذا هذا التطبيع في مجتمعنا مع ظاهرة غريبة عن منطق الحياة، شاذة عن القيم الدينية، دخيلة على المبادىء الإنسانية.
حينما نحاول فهم و تفسير هذه الظاهرة نلجأ عادة للعلوم الإنسانية، لكن علينا ألا ننسى ان هذه الأخيرة ظهرت كمنتوج بورجوازي لتطويع الطبقة العاملة ، و انها ربيبة الليبرااية المتوحشة. لهذا فلو طرقنا باب علم الاجتماع ،الكلاسيكي فسنجد السوسيولوجي دوركايم على سبيل المثال يعزو هذه الظاهرة لغياب التماسك الاجتماعي
في المجتمع الفرنسي ، لكن التماسك الاجتماعي هو مجرد نتيجة و ليس سببا، و لو عرجنا على مدارس علم النفس فجوابهم واحد: الاضطرابات النفسية المؤدية إلى الاكتئاب الذي لو أصبح حادا قد يكون دافعا للانتحار.
اعود ثانية و اقول الاكتئاب بدوره نتيجة و ليس سببا.
لو انفتحا على الواقع، فالمؤكد إنه ليس سببا واحدا ، و من الواضح انها مسألة جد معقدة تنهش الكيان الاجتماعي، تخلخل مفاهيمه و تنخر هويته……
و لا يكن الإلمام بها إلا من خلال مقاربة مادية موضوعية تركز بالدرجة الأولى على العوامل الاقتصادية/ ااسياسية، باعتبارها المسؤولة عن : الفقر، الجهل، الأمية، التفاوتات الطبقية…..و بهذا تكون هي المنتجة لباقي العوامل الاخرى: اجتماعبة، نفسية، فكرية ثقافية……
لهذا حري بالجهات المسؤولة أن تتحمل مسؤوليتها تجاه هذه الفئة التي لم تعد فردية و لا استثنائية أو معزولة مشكلة ظاهرة بالمعنى السوسيولوجي للكلمة . عليها إن تولي اهتماما أكثر للمواطن، الثروة الحقيقية لأي بلد، عليها أن تفكر في لقاح يحمي من سوء التدبيرالسياسي و الاقتصادي، عليها أن تمنحنا جوازا لولوج مرافق عمومية تصون كرامة الانسان ، عليها أن ترتعب عل مستقبل أبنائنا و شبابنا مثلما جعلتنا نرتعب من فيروس لعين أصبح اداة للابتزاز السياسي و الاقتصادي . عليها أن تتصدى للاوبئة و الآفات التدبيرية و تمكننا من جواز لتعليم عمومي جيد، للاستشفاء ناجع و لفرص شغل منظم و مهيكل……
اخيرا ، لا يسعني إلا أن أقول ان في الانتحار ثمة إرادة غريبة تغزو كيان الإنسان، لا أعرف بالضبط هل هي إرادته الخاصة، إرادة المجتمع و الظروف الجائرة ، أم إرادة جينات عبثت بها وراثة مجنونة…..
لكنها في جميع الحالات ليست إرادة الحياة التي روج لها الفيلسوف شوبنهاور……
“هي هلوسة من هول الصدمة.”