محمد العربي الجباري
في هذا السرد، أدعوكم إلى رحلة تسترجعون فيها ذكريات الحمام البلدي، لتعيشوا معنا تلك الأجواء الدافئة واللطيفة التي لا تُنسى. الحمام البلدي كان وما زال جزءًا لا يتجزأ من كينونتنا الاجتماعية في المغرب، بل هو جزء من هويتنا الوجدانية والقيمية. ستشعرون بنسمات الحنين تتسلل إلى قلوبكم وأنتم تغوصون في تفاصيل هذا الطقس الروحي والجسدي، مستمتعين بلحظات من المرح والدفء والتآخي. دعونا نسترجع معًا تلك الذكريات الجميلة ونتعرف على عالم الحمام البلدي، حيث الطقوس والعادات التي جمعت بين النظافة والترفيه، في تجربة فريدة تحمل في طياتها عبق الماضي وروعة الأصالة.
كان مساء السبت يحمل في طياته لقاءً دافئًا ولطيفًا في الحمام العمومي “حمام بريطل” في الغالب، برفقة الأصدقاء ج، س، ر، م، وأخ ج، ش. كنا نستعد لهذا الطقس الروحي والجسدي بتجهيزاتنا البسيطة المعتادة: شامبو، صابون بلدي، كيس فوطة طاقية بذلة رياضية ومشاية وجلابة في الغالب أيام الشتاء مشط، وغراف لغرف الماء الدافئ من أسطل الحمام ( القباب بلغة أهل القصر قديما). كان يوماً مشهوداً تتخلله قفشات المراهقة والضحك على أبسط الأشياء، حيث كان المرح والضحك يغلب على المشهد، وتزداد اللوحة طرافة وسريالية بالغناء الجماعي لأغاني “ناس الغيوان”، “جيل جيلالة”، و”المشاهب” الكاسحة لكل أرجاء المغرب آنئذ.
في تلك الأجواء الحارة والرطبة، كانت أجسادنا تطرى وتلين بفعل حرارة الحمام، فنتبادل حك جلدنا لبعضنا البعض. كنا نتناوب على غرف الماء الساخن من “البرمة” في الغرفة الحارة من الحمام، حيث ينقسم الحمام البلدي العمومي إلى ثلاث غرف: الأولى دافئة، تمثل مدخلًا للاستئناس وبداية لملحمة الطهارة والنظافة، وفق روح الشريعة الإسلامية “النظافة من الإيمان”. الغرفة الثانية أكثر دفئًا وهي المستقر الرئيسي لجل الرواد، غالبًا ما تكون مملوءة بالكامل. أما الغرفة الثالثة فهي القصوى، الأكثر حرارة، حيث موطن “البرمة” وهو حوض الماء الساخن المتدفق من صنبور نحاسي ضخم وخشن المنظر ببخاره المتصاعد الذي ينتشر رذاذه عبر كل غرف الحمام من السقف الى البلاط ، انه المحور الأساسي الذي يتمحور حوله كل شيء في الحمام البلدي.
كان هناك تحدي وجرأة في أخذ حقك ودورك في اقتناء الماء من “البرمة”. عادةً ما يتطوع أقوى الرجال وأجرؤهم لتنظيم التزود بالماء، وعندما يصل دوره في ترتيب المنتظرين في الطابور
يملأ أسطله ثم يدع الدور لمن يليه، في تسلسل تناوبي. وإذا حدث تجاوز أو تغابن، تعلو أصوات الاحتجاج، فيترك المنظم مكانه لمن هو أعدل وأجدر.
وفي لحظات الاحتياج الشديد، عندما ينضب الماء الساخن في “البرمة”، يضرب أحد “الكسالة أو الطيابة”، غالبًا ذو بشرة سوداء وعظام قوية، بالسطل بقوة على الجدار الذي يفصلنا عن “الفرناتشي” صاحب الكانون الذي يسخن الماء، ويفتح شدقيه بصوت عالٍ صائحًا: “وطلق السخون!” أي افتح أنبوب الماء الساخن.. لقد توقف ونضبت البرمة منه. فيتردد صدى صياحه كالزمهرير في كل جنبات الحمام. لتتعالى دمدمات الرواد المحتجين على سوء الخدمة، وتزداد حلقة تجمعهم اتساعًا وتزاحمًا، إلى أن يأتي الفرج ويبدأ الماء الساخن في الاندفاع، فتنفرج الأسارير وتتبدد الاحتجاجات تدريجيًا ليعود الوضع إلى حالته الطبيعية، وتستأنف القفشات والضحكات وحك الجلد وأصوات غرف المياه الساخنة بالطاسات من الأسطل التي تنضح بما فيها. يسمع من بعيد صوت انسياب مياه البرمة بكرم من على جوانب حوض الصهريج تتساقط أشتاتا أشتاتا على البلاط الأبيض في سيمفونية انسيابية لامتناهية تضفي على الجو الحار والرطب السائد في الحمام البلدي بعدا روحيا طهرانيا كأنه خلفية موسيقية وضعت خصيصا لهذه المشاهد الفانتازية المشبعة برطوبة الحمام وبخار البرمة كأنها من عالم الأحلام الصباحية الطرية.
بالرغم من أن هدفنا كان التسلية أكثر من الاغتسال، كنا نجد في الحمام فرصة للتنفيس عن كروبنا الصغيرة وضغوط الدراسة وإكراهاتها من انضباط في الصف والتزام بمواعيد الدراسة صباحا وزوالا وحفظ وواجبات وهواجس نقاط الفروض. وعندما يبدأ “الكسالة” بالتصفيق عالياً إيذاناً بنهاية دوام الحمام، نقوم بصب الأسطل علينا بسرعة ونخرج مهرولين متزاحمين وسط ضحكات بلا معنى أحيانًا إلى صالة الاستراحة حيث يوجد صاحب رزم أو شنط لوازم اللباس فنلبس بسرعة في تنافس محموم. لنخرج مشبعين بروح المرح إلى حد الامتلاء
نعود إلى منازلنا وكلنا انشراح ككوكبة رياضية خرجت من تدريب مضنٍ، سالمين، نظيفين، معافين، ومتجددين. ونبدأ دورة اتساخ جديدة باللعب والجري والعراك والتدافع وكل العاب المراهقة في السبعينيات، حتى إذا تشبعنا من التعرق اليومي، عدنا مجددًا إلى ملحمة الحمام العمومي، لنعيش تلك التجربة الفريدة مرة أخرى.