آخر مسمار يدق في نعش التعليم الأصيل

27 يونيو 2024

Hiد. محمد البدوي

وأنا أطالع بعض التبريكات و التهاني لآخر فوج درَّسته العلوم الشرعية في ثانوية التعليم الأصيل بمدينة القصر الكبير، وجدتُني أقرب الناس للحزن وأبعد ما أكون عن الفرح.
دقت ساعة الصفر موعد ظهور نتائج الباكالوريا، فتحسست هاتفي ودخلت مجموعة الواتساب خاصة بآخر فوج للتعليم الأصيل كتبت طلبا بعد التحية والسلام ومباركة العيد؛ أن أخبروني بنتائجكم وابعثوها لي على الخاص.
فبدأت الرسائل تصلني وكلها تحمل البشريات، فلم أستسلم للنوم ليلتي هذه حتى طلع عليَّ فجر الأربعاء، لأتحقق بعدها أن النجاح في هذا المسلك وهذه الشعبة مائة بالمائة وأن التوفيق حالف الجميع.
ومع رسائل النجاح بدأت تصلني بعض الرسائل من طلبتي كلها شكر وتقدير واعتراف بالجميل.
ففي هذه اللحظات انزويت في ركن من بيتي وأخرجت مذكرتي لأكتب لكم بعضا من مشاعري ردا
على ما غمرتموني به من مشاعر صادقة جعلتني أبكي كطفل صغير يشتاق لحضن أمه.
يتزامن هذا اليوم مع ظهور نتائج الباكالوريا ، وأنتم بذلك تنهون مشواركم الدراسي والذي كنت شريكا لكم في جزء كبير منه، كنت معكم. ربما أحسن مراحل عمركم، مرحلة الثانوي التأهيلي، ولربما كنتم القسم و المستوى الوحيد الذي درس عندي ثلاث سنوات ودرس عندي كل مواد تخصص العلوم الشرعية:( التفسير ، الحديث، الفقه، الأصول، الفرائض ، التوقيت، التوثيق).
لحظات حرجة وأنا أختم معكم مشواركم هذا، كنت أتمنى ألا يمر الزمن بسرعة ، مر كسرعة البرق، ثلاث سنوات أحسبها سمان، كنت أطرب وأفرح وأنا مقبل عندكم ، أنتظر تلك الساعات بفارغ الصبر ، يمر الزمن معكم منسابا كأنها لحظات، نستمتع بدروس التفسير ، نعيش مع تلك القيم الفريدة لسورة الحجرات ، فإذا انتصف العام ولجنا أحكام الدبائح والصيد في حضرة سورة المائدة.
وكم كنت أشعر بنشوة التعليم وأنا بصدد بسط بعض مضامين الحديث، أتوقف تارة عندما تواجهنا قضية فيها اختلاف الأئمة المجتهدين ، فأجدني حريصا على كشف خبايا بعض القضايا ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، فأحرضكم على التحصيل، وبدل قصارى جهدكم حتى تكون المادة طيعة سهلة.
هل تذكرون الحديث الثالث: والمعنون بالقضاء باليمين مع الشاهد؟ وكيف كنت أوصيكم بالحفظ مع الفهم، فكنت أبين لكم اختلاف الأئمة وأبسط لكم منشأ الاختلاف، وأستطرد لأبين لكم أن اختلاف الأئمة الأعلام الكبار رحمة ، حتى أشعر أنكم فهمتم أو بدأتم في الفهم.
حتى إذا دخلنا دروس أصول الفقه يكون لنا من الزاد العلمي والمعرفي ما يهون علينا طريق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، وكم كنت أشعر بنشوة التعليم وأنا أدرس المقاصد فأنتقل بكم من الضروريات إلى الحاجيات ثم التحسينيات، ولعلها من أحسن الدروس التي طالعتها ودرستها في دار الحديث الحسنية بالرباط على يدي علماء أجلاء( الدكتور أحمد الريسوني، والدكتور محمد الروݣي، والمرحوم الدكتور فريد الأنصاري)، وقد استجاب الله دعائي فتشرفت بتدريس المقاصد .
لا أفوت فرصة إلا وأخبرتكم أن بعض أسئلة الامتحان الوطني تكون على هذه الشاكلة، وربما لطول عهدي في التدريس في هذا التخصص، أصبح لدي حس اختيار بعض المحاور التي تكون مجالا واسعا للتقويم وتصلح غالبا سؤالا أو سؤالين في الامتحان الوطني الموحد .
معكم وبينكم كنت أشعر دائما أني بين أبنائي وبناتي، وقد لا أعبأ في كثير من الأحيان بما يقال عنكم، وقد أصبحتم مضرب المثل في الكسل وفي الغياب وحتى الغش.
لا أعبأ بذلك وأنا على يقين أنهم بذلك فقط يريدون استفزازي، وكأن النيل منكم هو التنقيص من سمعتي وضرب في مكانتي.
كنت على يقين أن محبتكم والحرص على التعليم الأصيل من الإيمان.
كيف لا ونصفكم من حفظة كتاب الله ، وهل يليق بي أن أنصاع لهم وأغير وجهتي عن مصلحتكم، أعرف أن الخير كل الخير في محبتكم والثناء عليكم وتشجيعكم حتى في ظل هذا التردي المريع للمنظومة التربوية في وطني.
كنت هذه السنة أنتظر نقطة الصفر، أنتظر الصاعقة، أنتظر موت التعليم الأصيل في مؤسسة، اسمها ثانوية وادي المخازن للتعليم الأصيل.
كنت شاهدا على احتضار تخصص العلوم الشرعية في مدينة القصر الكبير ، بل وحتى في المديرية الإقليمية للعرائش، لا أخفيكم سرا أن هذه السنة كانت أسوأ سنة قضيتها في التدريس في مساري المهني الذي أشرف على استكمال العقدين من الزمن.
وكنت أتحاشى أن أنقل إليكم بعض مشاعري السلبية، وأخاف أن تشعروا بي فتتحسسوا خيبات أمالي .
أصبح وداع التعليم الأصيل أمرا واقعا لا مناص من الهروب منه،وكأن أمرا دبر بليل، وكأن هذا المسلك كان يشكل خطرا على الثانوية أو على المدينة.
ولحد الساعة لا أستطيع أن أستوعب هول هذه المصيبة، وهذه الطامة.
ولكم ياسادتي يا كرام أن تلوموني، أو حتى أن تتهموني في تقصيري في الدفاع عن هذا الصرح العظيم الذي سقط مدويا بين يدي .
لكم الحق في ذلك، وما دور الأستاذ في هذه المنظومة إذا لم يستطع أن ينبري مدافعا منافحا عن تخصص درسه لمدة أربعة عشر سنة؛ سبع سنوات سمان وأخرى عجاف.
ماذا لو أخبرتكم أن قبل السنوات العجاف كان عدد المتعلمين في مؤسستنا يشكل ثلث العدد الإجمال من تلاميذ المؤسسة، يتجاوز العدد ثلاث مائة تلميذ وتلميذة وازدادوا تسعا، وأن نصف العدد من المنتسبين للتعليم الأصيل من حفظة كتاب الله تعالى.
ولا أبالغ إن أخبرتكم أن في زمن ثلاث سنوات ثم قبول ما يزيد عن مائتي حافظ لكتاب الله تعالى، ولكم ان تسألوا كل فقهاء هذه المدينة وحتى نواحيها عن زمن الخصب والعطاء .
بداية هذا الموسم بلغني خبر وفاة صاحبي السيد المدير محمد أشروي في تطوان، فكنت من مشيِّعي جنازته، بل كنت ممن كشف عن وجهه قبل غسله صحبة أخي وصديقي محمد أبو الربيع .
وأنا أتأمل وجهه وأنظر إلى جتثه هامدة في اللحد، طار بي الخيال إلى تشييع جنازة التعليم الأصيل في مؤسستي .
كان هذا الرجل رحمه الله من مسك بيدي وأنا يومها بدوي قادم من مدينة الشرفاء مسقط رأسي وزان، ويدخل بي لمكتبه حتى أكون ضمن لجنة اختبار المستوى وأنا مدرس جديد في هذه المؤسسة، أجلس بين زمرة من الأكابر وأنا صغيرهم يومها( الأساتذة : محمد الهواري ، مصطفى العسري، محمد أبو الربيع ، محمد العبيدي….)
رحم الله هذا الرجل كيف زج بي في هذه اللجنة ومع هؤلاء، وهو لا يعرف مدى حبي وتقديري وتعظيمي لحفظة كتاب الله، وأنا الذي جعلت نصب عيني يومها أبيات سيدي عبد الرحمن المجذوب ( اللي يحب الطلبة نحبوه ونديروه فوق راسنا عمامة //// واللي يكره الطلبة نكرهوه إلى يوم القيامة).
وهل كان من الضروري لكِ يا ذاكرتي أن تستحضر هذه اللحظات ، وتربط بين هذه الأحداث؟ هل حدث وفاة السيد المدير محمد أشروي هو إعلان غير مباشر ومن طرف خفي عن وفاة التعليم الأصيل بمدينة القصر الكبير ؟
رحمك الله سيدي محمد أشروي ورحم الله معك التعليم الأصيل بكيتك في جنازتك، وها أنا اليوم أبكي التعليم الأصيل بعيدا عن مؤسستي، أبكي التعليم الأصيل وأنا قابع في زاوية من بيتي، أتستر حتى لا أشغل أهل بيتي بمصيبتي ومصابي.
ربما أخي الدكتور أنور يعلم بالوجع الذي أصابني، ربما اتصالي به وتواصلي معه يخفف عني، كان أخي أنور سندي وثوأم روحي في مؤسستي، يفرح بفرحي ويحزن معي، أخي أنور قريب من كل ما يدور في وادي المخازن ، فهو الإداري المحنك الذي قدم من الجنوب فكتب على نفسه أن يساهم في بعث روح جديدة في الإدارة، وقد غير حفظه الله بعض المفاهيم التي كانت سائدة فكانت له صولة وجولة، له مكانة خاصة في هذه المؤسسة ، فإن ذكرت ذكر الدكتور أنور ، كفاءة قل ان تجد مثلها تكوين علمي رصين ، حنكة سياسية، خبرة في التسيير والإدارة ، نضال مستمر وقوفا في وجه الظلم أنى كان مصدره، أحسب أنه يعيش التهميش في وطن لا يعبأ بكفاءاته ولا يلتفت لقيمة أطره .

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading