قصة قصيرة: نفس المبدأ

20 يونيو 2024


حسن اليملاحي

لم ألتق بديفيد منذ مدة طويلة بعد أن أصبحت أعيش في برشلونة. لقد تعرفت إليه بعد أن أدمنت الجلوس في لاتيناس الكائنة بطريق بيك. في هذه المقهى الجميلة تشبعت بقيم إنسانية رفيعة. الزبناء الذين يرتادون هذه المقهى الفريدة يشكلون نواة أسرة واحدة. لم يكن بمقدوري معرفة ذلك إلا بعد أن اصطدم رأس رجل طاعن في السن بالباب الزجاجي. لقد هرع كل الزبناء إلى الخارج لإسعافه بعد أن أصيب بنزيف خارجي. كان باب المقهى صلبا وشفافا، ولذلك فهو يضلل كل من يسعى إلى ولوجه لأنه يبدو كما لو كان مفتوحا.
تلك المرة ، حدث لي نفس الأمر مع باب إحدى الإدرات العمومية. الآن، وبعد التطور الكبير الذي شهدته صناعة الأبواب الآلية، أصبح المرور بها آمنا لأنها تفتح بمجرد ما أن تقترب منها.
وأنا أجلس إلى ديفيد بعد كل هذه المدة، وجدت الرجل ما زال يحافظ على شبابه وطراوة حديثه – الذي يدخل السرور على القلب – بالرغم من تقدمه الكبير في السن. هذا الرجل الذي ينحدر من أصول أندلسية يحظى بتقدير واحترام الجميع. إدراة لا تيناس وتقديرا منها له، قررت تمتيعه بوضع خاص واستثنائي، بخلاف باقي الزبناء. ديفيد يأكل ما طاب من الأكل وما لذ من المشروبات الغازية والروحية من دون أن يدفع أي سنتيم واحد، ومقابل كل هذا ، فالرجل يقوم بخدمة المقهى طوال اليوم ، كأن يخرج القمامة إلى الحاوية بعد وضعها في أكياس بلاستيكية مخصصة، أو يتوجه إلى كاب رابو السوق التجاري الممتاز لاقتناء بعض الحاجيات أو لوازم الطبخ ، أو يرتب بعض الطاولات في سطيحة المقهى استعدادا للعشاء. المهم ، ديفيد بكل هذه الخدمات لا يختلف عن الجوكر في شيء.
في هذه الجلسة السريعة، حكى لي ديفيد عن وفاة ابنته لوسيا بعد أن أصيبت بمرض فقدان المناعة الذي ظل يلازمها لمدة طويلة. الطريف في مرض هذه الابنة – والعهدة على ديفيد – أن ابنته ظلت تعيش حياتها بشكل طبيعي بالرغم من معاناة المرض وشراسته. لوسيا كما أعرفها، فتاة قوية ومحبة للحياة لأنها جميلة. ولذلك، كانت تستغل كل اللحظات وتحولها إلى فرح كبير. لم ألتق بلوسيا بعد أن فرقت بيننا مشاغل الحياة. أذكر أن آخر لقاء جمعنا ببعضنا البعض كان خلال أعياد السنة الميلادية، تم ذلك عند باب بريكا السوق التجاري الممتاز، رأيتها تحمل شجرة الميلاد وبعض الأسلاك الكهربائية والهدايا. بعد أن تبادلنا التحايا والتهاني، انصرف كل واحد منا إلى حال سبيله. لم أكن أتصور أن الموت سيخطف منا لوسيا وهي في عز شبابها.
لقد بدا لي ديفيد متأثرا وهو يحكي لي عن موت ابنته التي لم تكن تفارقه. العائلات الأندلسية أشد ارتباطا ببعضها البعض من العائلات الكاتالانية مع تسجيل اختلاف بسيط. جميع من تعرفت إليهم من الأندلسيين كانوا يشبهون المغاربة في كل شيء. يشبهونهم في بعض العادات والتقاليد. صديقتي أميليا لا تشرب الخمر على الرغم من الكمية الكبيرة والمتنوعة التي تعلو فيترينة بيتها. لما دخلت بيتها لأول مرة، استرعى انتباهي هذا الكون من المشروبات الروحية، ولما سألتها عن سبب الاحتفاظ بها في بيتها، قالت لي إنها مجرد هدايا تقبلتها من الأصدقاء والصديقات في مناسبات وأعياد. وحالة أميليا تذكرني بحالة ماريا التي كانت تشتغل معنا في الكامبو، لقد كانت أكثر عروبة من العرب من حيث تمسكها ببعض التقاليد التي اكتسبتها من عائلتها القرطبية. أذكر أنه عند وفاة زوجها دانييل، لزمت بيتها ودخلت في حداد لمدة طويلة. فهي لم تكن تتزين وتتطيب كباقي النساء الأخريات. لقد كانت معتدة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. ما زلت أذكر أن وفاة زوجها، هذه الوفاة وضعت رب العمل في اختبار حقيقي، فعلى الرغم من كثرة الاتصالات بها للعودة إلى العمل، فالمرأة بقيت على نفس المبدأ ولم ترضخ لكل التهديدات التي كان يطلقها أليخاندرو. إنه كان يفكر في مشروعه أكثر مما يفكر في ماريا.
لا أخفي أني سررت أيما سرور بالالتقاء والحديث إلى العزيز ديفيد بعد كل هذا الغياب الخارج عن إرادتي، لكنني في الوقت ذاته تأسفت كثيرا لفقدانه للعزيزة ابته لوسيا ، لقد كانت قيد حياتها منارة قلبه التي تضيء دروب حياته التي شهدت تقلبا كبيرا فيوالمدة الأخيرة . ولكي أكشف لديفيد عن حبي وتقديري له، قدمت له ظرفا ماليا من باب تضامن الأصدقاء، وهو نفس التضامن الذي اكتسبته من مقهى لا تيناس.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading