من وحي الفواجع: أنا في انتظارك.

19 سبتمبر 2023

ذ . حنان قدامة :

بلغتِ القُلوبُ الحناجرَ، ركضَت الأجسادُ وخشعتِ الأبصارُ وهي تُحدّقُ خلفها وأمامها ، في مِنجَل الموت الذي يحصُدُ البشَر والشّجرَ والدّواب.
يخمد الموتُ الزُّؤامُ ــ موت الفَجأة ، الذي سرَت رائحتُه في كلّ مكان لنبدأَ في عدّ الأحياء قبل الأموات ولننشغلَ بمراسيم الدّفن وإقامة سُرادق العزاء ثم ننسحب في صمت أمام يقين الموت ليستبيحَ حياتَنا التّلهي والغفلة ، يقين الموت الذي نغفل عنه شبّههُ الخليفة “عمر بن عبد العزيز” باليقين المُقارب للشّك :
“ما رأيتُ يقينا أشبَهَ بالشكّ من يقينِ الموت ثم لا يستعدُّونَ له”
إنّ الشكَّ في القول المأثور الجامع لا يُرادُ به إنكاُر الموت وعدم الاعتراف به وإنّما يُقصدُ به عدم استحضار ذهن الإنسان للموت حتى يُقارب الشّك مع أنّه يقينٌ، فهو حاضرٌ في مُحيط الإنسان لكنّه غائبٌ عن ذهنه. .
تصويرُ “عمر بن عبد العزيز”نجدُه اليوم واقعا ملمُوسا عند أغلبنا فنحن نتعاملُ مع الموت على أنّه حقيقة إذا ما تعلّق بموت الآخر ونتعاملُ معه على أنّه شكٌّ ــ أشبه بالوهم ـ إذا ما ارتبط بموت “الأنا ” ،لفائفُ الموت ستلفُّ جسدَ الآخر وليس جسدي أنا ،أنا سأكون من ضمن المُشيِّعين لنعش الآخر ولا أتصوّرُ نعشي مُشيّعاً من طرفه، فنحن دوما نرى الموت في ملعب الآخر قريباً من مرماه ،بعيدًا عن مرمانا التي يحرسُها طولُ أمل دفين . . .
الكثيرُ مناّ خلال جائحة “كورونا”كان يتجاهل التّوصيات الصّحية تبعاً لفهم البعض منّا لعقيدة القضاء والقدر وتبعا لتصوّر البعض الآخر أنّ الموتَ قدرٌ محتومٌ لكنّه بعيدٌ عنهم فالميّتُون هم الآخرون وهم الأحياء .
اللاّفت أنّ غريزةَ البقاء تجعلُ الإنسانَ مسكُوناً برهبة الفَقد وبهاجس تغافُل الموت وتجاهُله، لربّما خوفا من مصير حياة ما بعد الموت بالنّسبة للمؤمنين ولربما خوفا من الفناء عند المادّيين الآملين في الخلود بدءاببحث ” جلجامش “‘بطل بلاد الرّافدين عن إكسير الخُلود وانتهاءً بمادّيي العصر الحديث المُعتبرين الموت مشكلة تقنية ستحلُّها وتعالجُها تكنولوجيا الخلود التي يتكفل بها صندوق استثمار شركة “جوجل”.
إنّ قوَّة غريزة البقاء والخوفَ المُلتهبَ من الموت والأمور المُرتبطة به يُصيبُ البعضَ بمرض” الرّهاب من الموت الذي يعيقُ حياة المُصاب به لذا تعمل جاهدة سيكولوجيا الخوف من الموت على التخفيف من حدّته عبر تشجيع الحديث عنه والاستئناس به، فأُنشئت في سويسرا”مقاهي الموت ” يرتادها المرضى من أجل الفضفضة والحديث عن المنيّة وهم يتناولون الكعك والشاي .ليتوافق الأمر مع الحديث النبوي الشريف “تذكروا هادم اللذات” .تذكّرُوا..الموت الذي يهدم خلايا جسمنا ــ خلايا الدم مثلاــ ونحن أحياء ويهدم وجودَنا في عالم سيبقى موجُودًا ونحن سنغيب عنه …فقد انطفأت أنوارُ حياتنا وعُدنا ـ أغلبنا ــ مُجرّد ذكرى . .
في ظلّ التدفُّق الإعلامي الهائل تغزو عيونَنا كّل حين صورُ الموت بجميع ألوانه.. نهتزُّ لحظات…. نُسيلُ عَبرات لكنّ النّفس الإنسانية المسكُونة بحبّ البقاء تقول له على حدّ قول الشاعر “محمود درُويش “: ” أيُّها الموتُ انتظِرني” ليُصيب آذانها وقرٌ حين يُخاطبُها الموتُ قائلا: أنا في انتظارك …في..انتظار لُقياك في موعد لن تُحدّدَي أنتِ ــ حتما ــ ساعته …وحين يحين أجلُه ستطرحين زفيراً ليس بعده شَهيق . .
حنان قدامة في 19/09/2023

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading