يحكى أن: جرة حبر انكسرت على التل

1 سبتمبر 2023

بين أغوارِ الطَّبيعة، وقبل ستِّ سنوات، كان أول عشق للحرف. كنت أمضي يومي بين ثنايا الجبل وأعودُ مساءً لأدون ما أمرُّ به ويمرُّ بي. ألتقي امرأَةً قرويةً تحْمل عشباً لتقتات منه بهائمُهَا أو تسوقُ بغلا في اتجاهِ عين ماءٍ، تملأُ أَقْداحَها لتروي عطش صغارِها.

كانت تلقي علي بابتسامتها التي تتسع يوماً بعدَ يوم، لتصير تحيةً فكلمةً فجملةً تسأل بها عن أحوال النفس ثم حكيا لتفاصيل يومها وتوقها للانتقال إلى العيش بالمدينة..”المدينة المريحَةِ “أو كما قالَت ..!
لمْ أُقاطع حديثها أبدا، كنت أتأمل وجهها الذي يزيد عن سنّها الحقيقي بسنوات وهو يحكي عن مغامرات الشتاء، قساوة الجو وانقطاع الضوء في الكثير من الأيام. كان ما قالته في مرة واحدةٍ كافياً بأن يجعلني أتخيلُ حياتها كاملةً. حياةٌ واحدةٌ رتيبةٌ هنا لكنّها هادئة..

كان شغف الكتابة يأتي حين أنفرد بسواد الليل، أشعل المصباح الصغير وأتخذ ركنا أمام السماء

ختمت حديثها بتنهيدة، وطلبت منّي أن أحكي لها عن معالم حُلمِها. كانت متحمسة جدًّا لدرجة أن بغلتها سرحَتْ بعيدا عنّا دون أن تَنْتبه. أخبرتها أني حللت بمنطقتها لأنْفُض عني غبار الصخب. أخبرْتُها أن في المدينة أناساً عصفت بهم أعْباءُ الْحياة ومشاغلها فأصبحوا جسداً بلا روح. وأن هناك آخرين يجاهدون من أجل أن يحافظوا على ما بقيَ منْهُم وسط المادية القاسية.

أخبرتُها أن هناك من يعيشُ أكثر منْ حياة ولا يحاول أن يحصر غايته في لقمةِ خُبز. استرسلت في الكلام لأجد ملامح الدهشة علت وجهها البشوش، فطِنْتُ بأني قلت ما يقال وما لا يقال فاستأذنتها علِّي أَلْقاها في صباح الغد ثم أكملت مسيري بين الصخورِ في رحلة الصفو.

كان شغف الكتابة يأتي حين أنفَرِدُ بسوادِ اللّيل. أشعِلُ الْمِصْباحَ الصّغير وأتخذ رُكنا أمام السماء المزَخْرفة بنجومها البارقة. لم يكن “عزازيل” من يدفعني للكتابة كما فعل مع “هيبا”، بل هي المتعة فقط التي كنتُ أجدها في خطّ السطور. كنت كرسّام مبتدئٍ يحاول نقل اللوحةِ التي أمامه كما هي سواءً شعرَ بعُمقها أم لم يشْعُر. ثم صرتُ أفتقد رغبة الحكي إلاَّ أن يبزُغ في قلبي معنىً فأنطوي على سطوريَ الْخفيفة لأُخَلِّده!

كَبرتُ قليلا، واختارني الطّبُ قبل أن أختاره. كنت أسْمع كثيرا عنْ أنَ طالب الطّب لا يجد وقتا لفعل شيء غيرَ حشر أنفه في المقرَّرات. مضيت على ذلك النّهْجِ في عامي الأوّل حتى مللت كل شيء. لكن قدر الله ساقني إلى أشخاص ربطتني بهم الكثيرُ من التفاصيل: حب الكتب والكتابة، شغفُ الطب وماضٍ متشابه!

“الحرف” حين يجدُ بين جوانبه أماناً يجرُؤ على أنْ يُطّلَّ رَغم رهبة المكان، ويتمنى لو يستقر بشغاف قلب قارئ له

أيام الدّراسة كانت تسرق جُلّ ساعاتنا، لكنّا اعتدنا أن نخلط رواية أو كتاباً بين كتب المقرر ونطالب بعضنا بخواطرَ تبعثنا خلقاً جديداً لنكمل الطريق.

قبلها كانت كتاباتي مصفوفَة بين أوراق داخل الخزانة، وبعدها صرت أنقلها إلى اثنين من أصدقائي ممّن ينتشون بما بين السطور.

لم أُفكر يوما في منصة يطل عليها الكل. البذرة حين تنبت في مكان تتكيف عليه، وحين تنتزعُها وتجعلها في مكان آخر قد تضعفُ وتذبُل إلاّ إن وجدت مكانا خصباً يجعل الحياة تَدُبُّ فيها مُجدّداً..
هكذا “الحرف” حين يجدُ بين جوانبه أماناً يجرُؤ على أنْ يُطّلَّ رَغم رهبة المكان، ويتمنى لو يستقر بشغاف قلب قارئ له.

من هنا أحببتُ أن تكون له البداية.. ومن هنا رفرف الشراع معلنا بداية الإبحار.

* شيماء شروي : طالبة طب …

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading