مقام البوح 22 – شاحنات حلاوة و شقاوة

25 أغسطس 2023

محمد أكرم الغرباوي

إنتظار الشاحنات الكبيرة بطريق العرائش و الرباط كان يقترن في طفولتنا بموسم قصب السكر ، حيت كنا نسابق تهورنا و حماستنا في تسلق الشاحنة و الأستحواذ على قصبات رخيمة طرية يسهل قضمها . كنا نقتسم الغنائم لنلتهم حلاوتها و أحيانا نوزعها في الحي إعلانا لنصر كبير . وبالقرب من حي سيدي الكامل كنا نرافق شاحنات تأتي المدينة كل موسم هي الأخرى . نستقبلها بتحية السائقين و الجري بمحاذاتها و نحن نردد بفرح طفولي ما تحمله من معدات و ألوانها ( طيارة حمرا . طاكسيات ، موطورات … ) .نسابقها لندخل قبلها حي المرينة و ننتظر وصولها و إستقرارها بساحة عرفناها مكانا قارا محميا بإسم ” بلاصة د السيركو ” ( باء حرف عربي . مكان السيركو ) .
السيركو . لافوار الكهربائي بحي المزوري كان جد مختلف عن سيركو الخشب الذي كان يحط بالقرب من المدخل السككي بوابة حي الباريو أو دوار العسكر. كان هذا السيرك الأخير عبارة عن دوائر ناعورات خشبية يجرها بعض الرجال أو الشباب ببنياتهم الجسدية القوية أو بإستعمال محركات يدوية تجر بخيط . هذه الناعورات إختلفت حسب السن . الأرضية منها عبارة عن منحوثات خشبية لحيوانات أو مجسم سيارة أو عربة يستفيذ منها الأطفال الصغار و أخرى عبارة عن مقاعد مشدودة إلى سلاسل مربوطة في رحى علوية . يركبها الفتيان و تدور بالفضاء العلوي . إضافة إلى ألعاب الخفة المحيطة بهذه الناعورات …
وصول السيركو الكبير ، كان يرافقه بعض كساد للأول . بعض إنزال المعدات و توضيبها و إعلان يوم الإفتتاح المجاني يكون السيركو مكان إجتماع المدينة . وإلتقاء الأسر و تبادل الفرح دون فوضى أو خوف . سينوغرافيا وديكور و تصميم السيركو كان محكم . المدخل كبير و البداية للألعاب الهادئة
(الورق الكارطة . الخفة . الحبل . الحظ أو رقم الحفرة التي يدخل إليها الفأر الأبيض … ) ألعاب السويرتي . دقة التسديد بالبندقية . حوض الماء و الأرقام بعد رمي القطعة النقدية . بعده ساحة ألعاب الأطفال . الناعورات ذات الأضواء البراقة و مجسمات الحيوانات و العربات الملونة المغرية . وسط ساحة السيركو تنصب خيمة الساحر و الرأس المقطوع . و بناية خشبية عالية عرفت بحائط الموت . حيت سائق الدراجة النارية الخارق . إلى جانب فضاءات السيارات الكهربائية التي كنا نظن أن قانون سيرها ، الحصول على أكبر عدد من الحوادث . وعرقلة مسير الآخرين . و الإصطدام بهم . وهناك على منصة بعيدة مزينة بأنواع مختلفة من الأواني المنزلية الفاخرة ذات الطراز الصيني ( صحون الطاورس و البديع و كؤؤس البلار . ) هدايا مثيرة . بوسط المنصة دائرة الحظ . عبارة عن عجلة تدور لثلاث مرات لتتوقف كل مرة عند رقم . الرقم الأول المئات و العشرات وأخيرا الوحدات . بعد شراء أوراق الحظ التي تحمل أرقاما يقوم منشط المنصة بعملية ضرب الدائرة و إعلان الرقم الفائز . كان وجود رجل بزي نسائي و رقصه بالمنصة يثير فضولنا نحن الصغار . كانت أجوبة أباءنا موحدة في جوابين متداولين بينا نحن طفال الحي و المدرسة قيل لنا . عيب أن ترقص المرأة هناك . لكن كان عيب الرجل بالنسبة لنا أكبر . وقيل أنها فرجة وتمثيل مثل التي نشاهدها في الحلقة . ” كان ردنا على أجوبتهم حرفين فقط آه . كبرنا وفهمنا أن جواب سؤال العيب لاجواب له .
كان السيركو بمدينتي الصغيرة محطة سعادةو تبادل التبريكات للفائزين . كانت فرحة أهالي المرينة لإستقبال أهالي باب الواد والشريعة في فضاءها الكبير و المحصن بسور .
كبرت المدينة وكبرت معها أحلام الإحتفال و كبر السيركو ليستقبله مكان صغير بصرخة سور عتيق .
السيركو كان لعبنا الصغيرة التي كبرت بوجوهنا و واقع مخيالنا الذي عشناه مع قصص الأطفال و المسلسلات التلفزية .
ظل السيركو رحلة أبدية هروبا من زمن الواقع ولحضات الحياة إلى عوالم أخرى نهواها أفقا جميلا .
كبرنا في الزمن ولم يكبر مخيالنا ورغبتنا في معاودة الفرح كلما أتيحت فرص الدخول لمتاهاته و ألعابه لنلاعب ذواتنا و أطفالنا ، بالطفل الذي سكننا و يسكننا
محمد أكرم الغرباوي
باحث في الفنون التعبيرية
كاتب ومخرج مسرحي

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading