محمد أكرم الغرباوي
رحى الحياة البسيطة كانت تدور بمدينتي القصر الكبير و تتوقف عند كل موسم ، هي مواسم الحياة بفصولها و أنشطتها ولعبها أيضا .إذ كانت ساحات الأحياء و خلواتها و حدائقها و بعض دروبها لاتخلوا من صخب طفولي . ألعابنا ولعبنا الطفولية كانت سلما وسلاما و توافقا و تكثلا وإنسجاما ، هي مراسي ومحطات لإكتساب الثقة و أسرار الحي . كانت مفاهيم مصطلح ” الزنقة ” جد مغايرة لما عليه الآن . كنا نسمع بإلحاح منهم أو منهن ” خرج تلعب فالزنقة ” يطالبوننا بالخروج . وبأسف كبير صرنا اليوم نهاب و نخاف و نفجع من الزنقة . (… يازمن …) . اليوم تحول النداء ( ادخل من الزنقة )
بدايات اللعب كانت من أبواب جميع المنازل على الأغلب ، فتيات، طفلات تأثثن خريطة الطريق الأسرية الحالمة . منزل من كرتون و ألعاب بلاستيكية و دمى تشترى و تصمد من موسم عاشوراء إلى عاشوراء. وأخريات يمارسن هواياتهن الغنائية الطفولية و حفظ الألحان و الأغاني المرافقة للعبة (اللاستيك ) او الشريط المطاطي الذي يقفزن فوقه بإنتظام و عد و حساب وفق قانون اللعبة .
كانت لعب الفتيات في غالبيتها تعمد الحسحركي ، جماعية، أساسها حفظ أغاني ومقاطع موسيقية لحنية مرافقة لها و حساب و تذكر الحركات بالترتيب و التتابع . – لم تكن لعبا فقط كانت تداريب ومهارات ميدانية أساسها الذهن والحركة و الحفظ و … هي ألعاب شعبية بديداكتيك و بيداغوجيات عالمية تُدَرٌَس –
ألعاب الأولاد و الفتيان غالبيتها حركية رياضية كرة القدم الصغيرة و الكبيرة البلاستيكية و بالون طانكو … كانت طوال السنة ، لا يوقفها لفترة إلا موسم ” البولات أو البي ” كرات زجاجية و حفرة صغيرة في الأرض مع إختيار نوع وقانون اللعبة ، الفوز بالكرة يكون بعد ضرب كرة الخصم بكرته ضربة واحدة . بينما الكرة الرخامية يتم ضربها ثلاث مرات على التوالي للفوز بها .
موسم بعد المطر يكون مرافقا للعبة ” ركايزة .” رسم مربعات مرتبطة ببعضها و خط يبعد عنها ثم رمي سهم أو قضيب حديدي او مشواة مع محاولة تثبيتها برمية بعيدة بكل المربعات بالتتابع . وهي مقابل موسم لعبة ” شريطة” أو لعبة الحجلة بالنسبة للبنات . رمي الحجرة و دفعها بالرجل عبر مربعات وكذا لعبة عشاوة ( مطبخ الفتيات ) [ لازلت أتساءل عن قدرتنا نحن الذكور على أكل طيور الزوش والزرزور بعد شراءه من الكزارين و اللعب به و شواءها في طقس جماعي ] . وكذا موسم لعبة ” حيلي” داخل وخارج البيت برفقة الأمهات و الآباء و الجدات أحيانا .
مواسم اللعب الجماعية كانت دقيقة و خاضعة لأماكن و أشخاص وتجار دكاكين الحي يبيعوننا عدتها بإنتظام و لكأنهم المسؤل عن بداية و إنتهاء و دوران هذه المواسم . ببيعهم الكرات الزجاجية في وقتها . و” التريمبو ” قطعة خشبية على شكل هرم أملس به شوكة رأسية يدور بخيط . الذي ينتهي بموسم ” ساب سبوت ” اللعبة الرياضية التي لا تحلو إلا باللاعب الترنيتا وهي محاولات القفز فوق عدد كبير من اللاعبين دون التعثر . و البداية الفردية تكون لترنيتا الذي يتطوع للقفز فوقه بداية اللعب إلى حين عدم قدرة لاعب آخر . – الترنيتا يتمتع بحق الخطأ وعدم القدرة .-
لعل تذكر هذه الالعاب ومحاولة جمعها و إقامة محطة ثقافية للإحتفاء بها كموروث قد يعيد إلى الذهن و الذاكرة حقها في التوارث . ومنها لعبة: عاش عاش – الغميضة – الفيتشات – ضرب العجلات بالعصا – دراجة القصب الرمضانية وإشعال الشمعة ليلا – الى أن وصلت الخطورة مع ألعاب كانت بداية الإنزياح عن فنون اللعب و سعادته إلى تحويله للألم أحيانا مع الكريبي و صيد الطيور . و إشعال النار في مواد قابلة للإحتراق بأسلاك التنظيف و ” حجر الكرابورو الحارق ” . ليأتي بعدها موسم النهايات مع صالات الألعاب الإلكترونية …
كانت الأحياء و الأزقة ملاعب قرب مفتوحة محروسة بالحب و التآخي و الوداد و الإتحاد . بعيدة عن كل تنمر أو إقصاء وأحقاد
ألعابنا الجماعية بسيطة التركيب، مركبة فلسفتها السوسيولوجية و البنيوية و الأسلوبية ..
من كان يتفنن في إبتكارها وقوانيها و طرائقها و طرقها ؟ من كان يسهر على دوران زمن اللعب وفق محطات و مواسم و عطل دراسية ؟ ما الذي جعل من الأجداد و الجدات و الأمهات و الأباء يدعونا للخروج للعبها بمحبة وتآخي ؟
من قتل الأمن فالزنقة وجعلها غولا كبيرا يفتك بالبراءة و الطفولة وحق الطفولة . ؟
من جعل الزنقة وحشا يغتصب الأطفال و يسرق الضحكات ؟
من قتل مفهوم وصدق وخوف الخال و الخالة و العم و العمة الذين كانوا جيراننا فقط لايحملون أسماء عائلاتنا .؟
من أعدم الزنقة . الحوما . الدرب . ديالنا . ؟
ليس الهاتف أو الأنترنت فقط أكيد !!! هو أكبر منه أكيد .
كانت ملاعب قرب ، ملاعب تآخي وحب
محمد أكرم الغرباوي
باحث في الفنون التعبيرية
كاتب و مخرج مسرحي