مقام البوح 21 – ملاعب قرب ” تآخي وحب “

22 أغسطس 2023

محمد أكرم الغرباوي

رحى الحياة البسيطة كانت تدور بمدينتي القصر الكبير و تتوقف عند كل موسم ، هي مواسم الحياة بفصولها و أنشطتها ولعبها أيضا .إذ كانت ساحات الأحياء و خلواتها و حدائقها و بعض دروبها لاتخلوا من صخب طفولي . ألعابنا ولعبنا الطفولية كانت سلما وسلاما و توافقا و تكثلا وإنسجاما ، هي مراسي ومحطات لإكتساب الثقة و أسرار الحي . كانت مفاهيم مصطلح ” الزنقة ” جد مغايرة لما عليه الآن . كنا نسمع بإلحاح منهم أو منهن ” خرج تلعب فالزنقة ” يطالبوننا بالخروج . وبأسف كبير صرنا اليوم نهاب و نخاف و نفجع من الزنقة . (… يازمن …) . اليوم تحول النداء ( ادخل من الزنقة )
بدايات اللعب كانت من أبواب جميع المنازل على الأغلب ، فتيات، طفلات تأثثن خريطة الطريق الأسرية الحالمة . منزل من كرتون و ألعاب بلاستيكية و دمى تشترى و تصمد من موسم عاشوراء إلى عاشوراء. وأخريات يمارسن هواياتهن الغنائية الطفولية و حفظ الألحان و الأغاني المرافقة للعبة (اللاستيك ) او الشريط المطاطي الذي يقفزن فوقه بإنتظام و عد و حساب وفق قانون اللعبة .
كانت لعب الفتيات في غالبيتها تعمد الحسحركي ، جماعية، أساسها حفظ أغاني ومقاطع موسيقية لحنية مرافقة لها و حساب و تذكر الحركات بالترتيب و التتابع . – لم تكن لعبا فقط كانت تداريب ومهارات ميدانية أساسها الذهن والحركة و الحفظ و … هي ألعاب شعبية بديداكتيك و بيداغوجيات عالمية تُدَرٌَس –
ألعاب الأولاد و الفتيان غالبيتها حركية رياضية كرة القدم الصغيرة و الكبيرة البلاستيكية و بالون طانكو … كانت طوال السنة ، لا يوقفها لفترة إلا موسم ” البولات أو البي ” كرات زجاجية و حفرة صغيرة في الأرض مع إختيار نوع وقانون اللعبة ، الفوز بالكرة يكون بعد ضرب كرة الخصم بكرته ضربة واحدة . بينما الكرة الرخامية يتم ضربها ثلاث مرات على التوالي للفوز بها .
موسم بعد المطر يكون مرافقا للعبة ” ركايزة .” رسم مربعات مرتبطة ببعضها و خط يبعد عنها ثم رمي سهم أو قضيب حديدي او مشواة مع محاولة تثبيتها برمية بعيدة بكل المربعات بالتتابع . وهي مقابل موسم لعبة ” شريطة” أو لعبة الحجلة بالنسبة للبنات . رمي الحجرة و دفعها بالرجل عبر مربعات وكذا لعبة عشاوة ( مطبخ الفتيات ) [ لازلت أتساءل عن قدرتنا نحن الذكور على أكل طيور الزوش والزرزور بعد شراءه من الكزارين و اللعب به و شواءها في طقس جماعي ] . وكذا موسم لعبة ” حيلي” داخل وخارج البيت برفقة الأمهات و الآباء و الجدات أحيانا .
مواسم اللعب الجماعية كانت دقيقة و خاضعة لأماكن و أشخاص وتجار دكاكين الحي يبيعوننا عدتها بإنتظام و لكأنهم المسؤل عن بداية و إنتهاء و دوران هذه المواسم . ببيعهم الكرات الزجاجية في وقتها . و” التريمبو ” قطعة خشبية على شكل هرم أملس به شوكة رأسية يدور بخيط . الذي ينتهي بموسم ” ساب سبوت ” اللعبة الرياضية التي لا تحلو إلا باللاعب الترنيتا وهي محاولات القفز فوق عدد كبير من اللاعبين دون التعثر . و البداية الفردية تكون لترنيتا الذي يتطوع للقفز فوقه بداية اللعب إلى حين عدم قدرة لاعب آخر . – الترنيتا يتمتع بحق الخطأ وعدم القدرة .-
لعل تذكر هذه الالعاب ومحاولة جمعها و إقامة محطة ثقافية للإحتفاء بها كموروث قد يعيد إلى الذهن و الذاكرة حقها في التوارث . ومنها لعبة: عاش عاش – الغميضة – الفيتشات – ضرب العجلات بالعصا – دراجة القصب الرمضانية وإشعال الشمعة ليلا – الى أن وصلت الخطورة مع ألعاب كانت بداية الإنزياح عن فنون اللعب و سعادته إلى تحويله للألم أحيانا مع الكريبي و صيد الطيور . و إشعال النار في مواد قابلة للإحتراق بأسلاك التنظيف و ” حجر الكرابورو الحارق ” . ليأتي بعدها موسم النهايات مع صالات الألعاب الإلكترونية …
كانت الأحياء و الأزقة ملاعب قرب مفتوحة محروسة بالحب و التآخي و الوداد و الإتحاد . بعيدة عن كل تنمر أو إقصاء وأحقاد
ألعابنا الجماعية بسيطة التركيب، مركبة فلسفتها السوسيولوجية و البنيوية و الأسلوبية ..
من كان يتفنن في إبتكارها وقوانيها و طرائقها و طرقها ؟ من كان يسهر على دوران زمن اللعب وفق محطات و مواسم و عطل دراسية ؟ ما الذي جعل من الأجداد و الجدات و الأمهات و الأباء يدعونا للخروج للعبها بمحبة وتآخي ؟
من قتل الأمن فالزنقة وجعلها غولا كبيرا يفتك بالبراءة و الطفولة وحق الطفولة . ؟
من جعل الزنقة وحشا يغتصب الأطفال و يسرق الضحكات ؟
من قتل مفهوم وصدق وخوف الخال و الخالة و العم و العمة الذين كانوا جيراننا فقط لايحملون أسماء عائلاتنا .؟
من أعدم الزنقة . الحوما . الدرب . ديالنا . ؟
ليس الهاتف أو الأنترنت فقط أكيد !!! هو أكبر منه أكيد .
كانت ملاعب قرب ، ملاعب تآخي وحب
محمد أكرم الغرباوي
باحث في الفنون التعبيرية
كاتب و مخرج مسرحي

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading