مقام البوح 17 – البانتشو ، سيد الإبتسامات

18 أغسطس 2023

محمد أكرم الغرباوي

منازل صغيرة بأحياء متفرقة و بعُدًَة طبية نظيفة مرتبة ، لكنها لم تكن بمستوصفات أو مراكز صحية . هي نقط تطبيب كانت تحمل ياطفة بإسم صانع و ليس طبيب أو مسعف . المهنة ” صانع أسنان ” .
رجل أنيق بوزرة بيضاء بمختبر محلي شديد الدقة . مختص في نزع الأسنان و الأضراس و الأنياب . خبير في إستجابتها للنزع الخفيف أو معالجتها دون قلع . على أريكة معدة سلفا يقوم بالفحص المباشر وبعدها يباشر المهمة بخُلق و حياء و أدب و تأدب. هكذا عرفنا سي محمد العروصي ( بانتشو) ، و الحاج الوزاني ، و سعيد استيتو و جمال… وغيرهم كثير دون استثناء .
كانت الأسر و المقاهي و التجمعات تتناقل أخبار وقصص و حكايا صناع الأسنان . رحماء المتألمين المتوجعين ليل نهار . يحكون عن اليد الخفيفة لفلان . و الطاقم المتقن لفلان . و سرعة القلع عند فلان … كانوا جميعهم يتفننون في الصنعة و الخبرة و المهارة و محاربة الوجع.
أذكر بحينا الشعبي بوسط المدينة مدخل حي السويقة . الأنيق دائما . سي محمد العروصي المعروف تاريخا بالبانتشو . رجل طويل برائحة عطرة ، حليق اللحية بشارب أبيض بارز . وربطة عنق أنيقة رقيقة و معطف أبيض ناصع . يتقن اللغة الإسبانية و يستعملها في حديثه أحيانا بعفوية و طلاقة. منذ طفولتنا وهو يحارب تسوس أسناننا ومراقبتها ، و تنامي بروز أظافرنا و مطالبة المراهقين بحلاقة الشعر أو العناية به فور إنسداله .كان أمينا على سلامة أبناء الحي . سي محمد العروصي ( البانتشو) كان شديد الحرص على تحية الجميع و إحترام الكل . لم نتذكر يوما طوال حياته رحمه الله أن سمعنا علو صوته أو غضبه أو خلافه . يقف على ناصية البنك الإسباني المغربي أو بباب محله حيت السيدة المرحومة ” شامة” مساعدته الى أن رحمها الله ، نذكر حزنه عليها وهي التي قضت عمرا طويلا بيننا جميعا . نذكر أنه لم يفتح محله لأيام …
كان يبادل البسمات و القفشات و السلام و السؤال عن أحوال الجميع .
سي محمد رحمه الله ( البانتشو )كان شديد الحرص و العناية بمختبره . كنت أراه منهمكا حينما أحضى بزيارة له يعمل على تطويع مادة ( العلج ) بعناية محكمة . كان مكتبه شبيه ببرج فيلسوف أو أديب غير عربي . شديد العناية بالترتيب و التوضيب . ونذكر سحرية كلامه و ألغازه مبتسما ( المعقول ماشي مزيان ) وحين يرى تعجبنا يصحح المعقول ( ماشي من السير . وليس من النفي ) أو حين يقول ( بلا بيك ماكاين والو ) فيصحح ” البيك Bic بمعنى القلم” . مطالبا منبها إيانا بتدوين المعلومات و شرح أساتذتنا بالمدرسة .
كان رحمه الله يفرح حقا لأفراحنا و يحزن لأحزاننا .
كان سي محمد بانتشو طوال سنوات عمره مثالا لنا نحن أبناء الحي الشعبي وهو القادم من ثقافة و مجايلة الإسبان . و المقيم بقوس المحلة بالحي الإسباني للمعسكر القديم . لم يكن رحمه الله متعاليا أو مستعليا . كان صانع البسمات و الفرحات و الإبتسامات .عاش ناصعا طهورا بأخلاقه و مهنيته قبل وزرته وشاربه .
محمد أكرم الغرباوي
باحث في الفنون التعبيرية
كاتب و مخرج مسرحي

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading