محمد أكرم الغرباوي
منازل صغيرة بأحياء متفرقة و بعُدًَة طبية نظيفة مرتبة ، لكنها لم تكن بمستوصفات أو مراكز صحية . هي نقط تطبيب كانت تحمل ياطفة بإسم صانع و ليس طبيب أو مسعف . المهنة ” صانع أسنان ” .
رجل أنيق بوزرة بيضاء بمختبر محلي شديد الدقة . مختص في نزع الأسنان و الأضراس و الأنياب . خبير في إستجابتها للنزع الخفيف أو معالجتها دون قلع . على أريكة معدة سلفا يقوم بالفحص المباشر وبعدها يباشر المهمة بخُلق و حياء و أدب و تأدب. هكذا عرفنا سي محمد العروصي ( بانتشو) ، و الحاج الوزاني ، و سعيد استيتو و جمال… وغيرهم كثير دون استثناء .
كانت الأسر و المقاهي و التجمعات تتناقل أخبار وقصص و حكايا صناع الأسنان . رحماء المتألمين المتوجعين ليل نهار . يحكون عن اليد الخفيفة لفلان . و الطاقم المتقن لفلان . و سرعة القلع عند فلان … كانوا جميعهم يتفننون في الصنعة و الخبرة و المهارة و محاربة الوجع.
أذكر بحينا الشعبي بوسط المدينة مدخل حي السويقة . الأنيق دائما . سي محمد العروصي المعروف تاريخا بالبانتشو . رجل طويل برائحة عطرة ، حليق اللحية بشارب أبيض بارز . وربطة عنق أنيقة رقيقة و معطف أبيض ناصع . يتقن اللغة الإسبانية و يستعملها في حديثه أحيانا بعفوية و طلاقة. منذ طفولتنا وهو يحارب تسوس أسناننا ومراقبتها ، و تنامي بروز أظافرنا و مطالبة المراهقين بحلاقة الشعر أو العناية به فور إنسداله .كان أمينا على سلامة أبناء الحي . سي محمد العروصي ( البانتشو) كان شديد الحرص على تحية الجميع و إحترام الكل . لم نتذكر يوما طوال حياته رحمه الله أن سمعنا علو صوته أو غضبه أو خلافه . يقف على ناصية البنك الإسباني المغربي أو بباب محله حيت السيدة المرحومة ” شامة” مساعدته الى أن رحمها الله ، نذكر حزنه عليها وهي التي قضت عمرا طويلا بيننا جميعا . نذكر أنه لم يفتح محله لأيام …
كان يبادل البسمات و القفشات و السلام و السؤال عن أحوال الجميع .
سي محمد رحمه الله ( البانتشو )كان شديد الحرص و العناية بمختبره . كنت أراه منهمكا حينما أحضى بزيارة له يعمل على تطويع مادة ( العلج ) بعناية محكمة . كان مكتبه شبيه ببرج فيلسوف أو أديب غير عربي . شديد العناية بالترتيب و التوضيب . ونذكر سحرية كلامه و ألغازه مبتسما ( المعقول ماشي مزيان ) وحين يرى تعجبنا يصحح المعقول ( ماشي من السير . وليس من النفي ) أو حين يقول ( بلا بيك ماكاين والو ) فيصحح ” البيك Bic بمعنى القلم” . مطالبا منبها إيانا بتدوين المعلومات و شرح أساتذتنا بالمدرسة .
كان رحمه الله يفرح حقا لأفراحنا و يحزن لأحزاننا .
كان سي محمد بانتشو طوال سنوات عمره مثالا لنا نحن أبناء الحي الشعبي وهو القادم من ثقافة و مجايلة الإسبان . و المقيم بقوس المحلة بالحي الإسباني للمعسكر القديم . لم يكن رحمه الله متعاليا أو مستعليا . كان صانع البسمات و الفرحات و الإبتسامات .عاش ناصعا طهورا بأخلاقه و مهنيته قبل وزرته وشاربه .
محمد أكرم الغرباوي
باحث في الفنون التعبيرية
كاتب و مخرج مسرحي