“أخي رشيد

17 أغسطس 2023

الخليل القدميري :
لا تسعفني أخي الكلمات على استعادة مشاهد منقوشة في الذاكرة، ولا على إبداع حياة أخرى لأتذكرك. لربما، انطلاقاً من هذا العوز، امتطيتُ صهوة الكتابة بفعل إلحاح ذكراك.
لا يمكن أن أنسى ابتسامتك المشرقة وعينيك الواسعتين، وأنت تهرول كالطيف الجميل بقامتك القصيرة، ضاحكاً متوسلاً، معرباً بعذوبة لا نظير لها عن رغبتك في أن تكون محمولاً على الأكتاف.
فكرتُ مليّاً هذه الأيام في تفاصيل حياة قصيرة جمعتنا قبل أن يتخطفك المنون على حين غرة ليتوقف حلم مشترك قبل أن يكتمل.
يحضرني اللحظة مشهد تلك الليلة التي أُصبتَ فيها بنزلة برد أدخلتْكَ إلى المستشفى الإسباني. لا أذكر من تكفل برعايتنا تلك الليلة ولا كيف قمنا من النوم عند عودة أبي وأمي دون أن تكون أنت من بين العائدين. قيل لنا حينها أنك بخير، غير أن إحساساً غريباً بأننا لن نراك فيما بعد قد خيّم على المكان.
اصطدمتُ بصلافة بوّاب المستشفى، حين ذهبت لزيارتك بمفردي، كان قابعاً خلف باب حديدي صدئ، يغطي رأسه طربوش أحمر، عيناه جاحظتان، تعلو محياه صفرة الموت، يمسك حزمة مفاتيح وسخة وعلى لسانه لازمة واحدة:” ممنوع الزيارة”.
منعوني من رؤيتك وأنت طريح الفراش في المستشفى ومن إلقاء نظرة الوداع على جسدك وهو مسجى على نعش، لكنني أحتفظ بمشهد وجودي في الحمّام وأنا أجهش بالبكاء، وبوفود أفراد العائلة من مدن أخرى ما كانوا ليأتوا بتلك الكثرة لولا حدوث أمر خطير. ببيتنا أفراد لم يسبق أن رأيتهم من قبل يملؤون أركان البيت كله.
استدرجونا إلى خارج البيت ولم يسمحوا لنا بالبكاء عليك ولا بتوديعك، إذ كان علينا أن نظل فرحين ولاهين، أي كان علينا أن نظل أطفالاً.
حين عدتُ إلى المدرسة تكلمت عنك كأنك لا زلت حيّاً ترزق، بل ابتدعت لك حياة أخرى، فلربما، من يومها، كان مقررا لي أكتب لأبتدع حيوات أخرى.
وفي بلد لم تكتب لك مواصلة العيش فيه لا زلت أبحث عن كلمات أرسم من خلالها لحظات سعيدة قضيناها معا في بيتنا البسيط ونحن نلهو ونلعب ونتشبث ببعضنا كأننا لن نفترق أبداً. قد يكون هذا من جملة ما يدفعني إلى الكتابة ومواصلة الكتابة، مستلمها ذكراك، بادلاً ما في وسعي لأغمرك بفيض من المعاني والكلمات.
الرباط 17 غشت 2023.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading