نهاية بائع ورد

21 أكتوبر 2021

الاديب : محمد الجباري _ هولندا

ٱه ابنتي الجميلة مونيك لا أدري حقيقة هل أشفق عليك أم أشفق على نفسي؟ حاولت قدر الإمكان أن أبدو هادئا وانا أنصت إليك، نجحت بمشقة وعسر كبيرين في أن تبقى ملامح وجهي خالية من كل مشاعر الغضب التي كانت مشتعلة بداخلي، كانت براكين من نار مستعرة في قلبي ووجداني وجاهدت نفسي كثيرا في أن ينحصر هذا البركان فقط بين دفتي أضلعي ولا يطفو الحريق أبدا على تعابير وجهي، ٱه عزيزتي ما أتعس بركانا يفشل أن يصنع لنفسه فوهة ينفث من خلالها حممه وسيلان أحجاره الملتهبة، رأيتك هذا الصباح تمسكين هاتفك الصغير بشغف واهتمام كبير حتى أنك لم تردي على تحيتي الصباحية ولم تشعري ربما حينما وضعتُ على طاولتك فنجان القهوة وشطائر الخبز المحمر بالجبن الذائب التي تعشقينها، فجأة رشفت من قهوتك وقبل أن تضعٍ فنجانك على الطاولة قلت وانت مازلت تنظرين إلى شاشة هاتفك الصغير: ” أعتقد أنه حان الوقت لتستريح من عناء العمل، لقد اتفقت أنا وخطيبي فليب أن نعرض دكانك الصغير للبيع!”، شعرت للحظة أن روحي انفصلت عن جسدي وظلت معلقة في الهواء كفنجان قهوتك بالضبط بينما خيوط من دخان القهوة كانت تصعد إلى السماء. لقد استغربت حقيقة من حماسك الكبير وفرحتك بالمبلغ الهائل الذي اقترحته شركة عالمية لصنع الهواتف الذكية من أجل شراء دكاني الصغير لبيع الورد، فهمت أنكما انت وخطيبك فليب أبديتما موافقتكما النهائية على عملية البيع، ربما أنك حبيبتي نسيت أمرا غاية في الأهمية وهو أني المالك لهذا الدكان. الشيء الذي أحزنني صغيرتي أنك لم تقدري جيدا قيمة دكان الورد، ألم أخبرك يوما أن والدتك فكتوريا حين ماتت قبل عامين عوض أن تصعد روحها السماء اختارت أن تمكث في دكان الورد بجانب الياسمين والقرنفل والزنبق والزعفران والتوليب، عجبا ألم تستنشقي عبير أنفاس فيكتوريا والدتك وانت تستنشقين الورد؟ ألم تبصري طيفها يتحرك بين أصص النباتات والزهور؟ حبيبتي مونيك في يوم مولدك ذهبت إلى والدتك في المستشفى وجدتك نائمة فوق صدرها كما يليق بملاك أن ينام في طمأنينة وسلام ، يومها احتفلتُ بطريقتي الخاصة بأول ليلة لك في الدنيا حين زرعت في الحديقة الخلفية للدكان بدور شجرة الأرز فكلما كنت تكبرين كانت شجرة الأرز تكبر أيضا…. عليك إذن أن تتخيلي قيمة دكان يعيش بداخله روح فكتوريا وتوأمك شجرة الأرز. ما أقساك ابنتي، كيف تهون عليك والدتك وأختك معا؟
كنت مازلتُ في ريعان شبابي حينما حللت ذات يوم ربيعي بهذه القرية، وأنا أغادر محطة القطار متجها إلى المستشفى لعيادة صديق استوقفني دكان بيع الورود، سررت كثيرا بالعجوز العم ليو صاحب الدكان وأعجبت بطريقته الخاصة في التعامل مع الورد، كان دقيقا جدا وهو بأنامله الرشيقة ينتقي أزهار عباد الشمس ليصنع منها باقة في منتهى الجمال والإبداع، كانت أنامله وهو يرتب الورود والأزهار وكأنها تعزف على أوثار الكيتار. توطدت علاقتنا أكثر وصرت أزور الدكان بصفة منتظمة كل أسبوع، أخبرني العم ليو أنه ورث هذا الدكان عن والده الذي كان صديقا للرسام الكبير فإن غوخ، حتى أن لوحته ” عباد الشمس ” الشهيرة كان قد رسمها بعد أن شاهد جمال وروعة أصيص زهرة عباد الشمس في مدخل الدكان، امتعض وجه العجوز ليو وقال بصوت حزين:” من العار أن العالم يحتفي بالرسام فإن غوخ ولوحته الشهيرة ولا يحتفي ببائع الورد -أبي- صاحب أصيص عباد الشمس الذي من جماله ورقة تصميمه ألهم الرسام الكبير فخصص له أجمل لوحاته”.
حدث أن زرت دكان الورود في بداية عطلة الصيف لكني لم أجد العم ليو، ولم أشغل نفسي بغيابه كنت مشغولا أكثر بزهرة طغى جمالها على كل زهور وورود الدكان ومن لطف الزهرة وأناقتها صارت تبتسم لي ….ما أعذب الزهور حينما تبتسم.
صمتُّ برهة وأنا المهووس بعالم النباتات أتخيل ترى إلى أي فصيلة نادرة وغريبة تنتمي هذه الزهرة؟ ثم مشيت نحوها…
– كيف أشرح لك بأنك أقرب إلى فصيلة الزهور من الإنسان!
لم تعلق على كلامي فقط ابتسامتها الخجولة والمشرقة كانت كفيلة أن تشعل شموسا عديدة تتلألأ في سماء حياتي…
كانت فيكتوريا طالبة في معهد الفنون الجميلة بجامعة روتردام وتأتي كل عطلة صيف إلى دكان الورد لمساعدة الحجوز ليو، صرنا من فرط تعلقنا ببعض نقضي اليوم كله معا في الدكان وفي المساء تجلس على المقعد الخلفي لدراجتي الهوائية تطوقني بذراعيها العارتين، وأنتشي أكثر حينما تضع خدها تتوسد ظهري فننطلق معا – كنا نغني ونحن نمر بين الوديان والحقول والأشجار ونستأنس بقطعان الأبقار والمعز والخرفان – نحو بيتها المنتصب أعلى الربوة. لم يعد من شيء يضايقنا إلا حديث العم ليو الذي أخبرنا به هذا الصباح حول رغبته في بيع دكان الورد.
كان الطريق نحو بيت فكتوريا خال من أي متعة هذا المساء، لقد ظلت صامتة وهي خلفي، لم نغن كما كنا نفعل دوما بالكاد كنت أسمع من حين لٱخر تنهيدتها تكسر صمت الطريق، أضحت على غير العادة عجلات الدراجة ثقيلة ومتعبة وعسيرة، توقفتُ بجانب النهر لأخد قسطا من الراحة، كنت ألهت وأتصبب عرقا فقالت فكتوريا:
– عجبا لم أكن أعلم أن القلب حينما يحزن يتعب كل الجسد.
ثم ارتمت في أحضاني وبكت طويلا ، ٱه من قلة حيلتي وهواني كيف أستطيع أن أخلصك حبيبتي من نوبة الشهيق التي تجتاحك وتخلف نهرا من الدموع في عينيك الجميلتين؟ كيف كنت أستطيع من قبل وبكلمة واحدة أجعلك ترقصين من الفرح؟ صرت وأنا أبحث لك ولنفسي عن كلمة مواساة كمن يبحث في الظلام عن إبرة في كوم قش. لا أدري كيف تخلصت أخيرا من العقدة التي شلت لساني فقلت لها وأنا أنظر وسط عينيها الدامعتين:” ما رأيك أن أتقدم لخطبتك هذا المساء؟” ابتسمت فكتوريا أخيرا وقالت بكثير من الرجاء:” موافقة بشرط أن يكون دكان الورد هدية زواجي”. طال انتظار فكتوريا وهي تحدق في وجهي تنتظر ردي على كلامها الأخير… لكني لم أقل شيأ…من يعقد العزم لا يتكلم كثيرا.
ركبت القطار في تلك الليلة متجها نحو بيت العائلة أقصى الشمال لكي أتدبر مع أعمامي مسألة الميراث الذي بقي عالقا بيننا منذ وفاة والدي قبل سنوات، تطلب مني ذلك قرابة الشهر، مجرد أن أنهيت صفقة البيع قفلت راجعا نحو العم ليو أتوسل القدر مسألتين، أولا أن أجد دكان الورد على حاله لم يشتريه أحد بعد، وثانيا أن تسرع أكثر عجلات هذا القطار الذي خُيل لي من تباطؤه وتمهله وكأنه عوض أن يسير فوق سكته الحديدية صار يحبو كالرضع الأطفال!
في المساء كنت أقف عند عتبة منزل فكتوريا، بمجرد أن فتحت لي الباب حتى صارت تضرب بقبضة يديها فوق صدري وتعاتبني، لم تتوقف لحظة عن طرح الكثير من الأسئلة حول غيابي كل هذه المدة، لكنها كانت فجأة تصمت قليلا وتسألني ” هل اشتقت إلي؟” فكنت أنظر إلى عينيها الطافحتين من الدمع وابتسم!
عوض أن أشغل نفسي بأسئلتها الكثيرة والمتكررة حملتها بين يدي إلى المقعد الخلفي لدراجتي وانطلقنا نحو القرية كما كنا نفعل في الماضي، طوال الطريق لم أنبس ببنت شفة بينما فكتوريا كانت مصرة على سؤالها المكرر والمعاد ” هل اشتقت إلي؟”، وقفنا بجوار دكان الورد وقد وضع فوق بوابته لافتة كبيرة مكتوبة بالخط العريض “دكان فكتوريا للزهور” … فقلت لفكتوريا ومزيج من الدهشة والفرحة يملأ تعابير وجهها المشرق.
– لا أعتقد أن سؤالك ” هل اشتقت إلي؟” صار له الآن من معنى!
ٱه، ابنتي الجميلة مونيك حتى بعد أن علمتِ بقصة دكان الورد مازلت مصممة على بيعه؟ ما أقساك حبيبتي، كيف تطلبين مني أن أعرض هدية زواجي للمزاد؟
صرنا أنا وفيكتوريا متعلقين كثيرا بدكان الورد وكنا نقضي هناك تقريبا اليوم كله، لم نكن نشعر قط بالملل وسط زهور الياسمين وورود التوليب الفاتنة الألوان، هل خبرتَ أن أحدا أصابه الملل في الجنة؟
أحببت كثيرا موقع الدكان الذي كان بجانب محطة القطار فأول ما يصادفه القادم لهذه القرية هو دكان الورد بينما المدرسة الوحيدة توجد على بعد أمتار، الأطفال قبل ولوجهم المدرسة اعتادوا أن يغازلوا الفراشات التي تتغذى من رحيق الورد، ترى كيف نبرر للأطفال رحيل الزهور وهجران الفراشات؟ لم يكن يضايقني إلا تصرف رجال الشرطة الذين كانوا يتعقبون البائعين المتجولين في فضاء محطة القطار ، مشهد الكر والفر بين الشرطة والبائعين كان بئيسا جدا كنت أتحاشاه بأن أغلق الدكان.
لا أخفي عليك عزيزتي مونيك لقد أصبت باكتئاب حاد وبرغبة جامحة في البكاء المرير أول الأسبوع الماضي حينما وصلتني رسالة من المحكمة تخبرني أنك رفعت قضية من أجل الحجر علي، كيف طاوعتك نفسك أن تفعلي ذلك؟ وها أنت تمنعين عني الذهاب إلى دكان الورد بعد أنا وضعتِ أقفالا جديدة على الباب، من المفروض أن أذهب بعد ساعة إلى موعد جلسة المحكمة سيكون لقاؤنا هناك محرجا جدا على الأقل بالنسبة إلي، سأخبر القاضي أني لا أعاني العجز كما تدعين، حتى حاسة السمع التي فقدتها أخيرا لن تكون حائلا أبدا بيني وبين شغلي ربما نسيت حبيبتي أن بتهوفن حين ألف أروع سمفونياته كان أصمّ، سأخبر القاضي أني لا أعاني أبدا من فقدان الذاكرة أو الزهايمر كما جاء في تقرير مزور للطبيب بدليل أني مازلت أتذكر كل التفاصيل الصغيرة وكل زبناء الدكان ونوعية الورود التي يفضلها كل واحد منهم، ٱه يا إلهي كدت أنسى موعد السيد مارتا التي تأتي من مدينة بعيدة كل يوم خميس في قطار الساعة العاشرة لزيارة قبر زوجها وتقتني من الدكان باقة ورد، ماذا لو وجدت الدكان مغلقا؟ لم أعد أبالي بموعد المحكمة، بسرعة هيأت باقة ورد من بعض الزهور التي كنت أحتفظ بها في حديقة المنزل وأخذت معي سلة من ورود التوليب لكي أبيعها في محطة القطار …فأنا في الأصل بائع ورد.
سعدت كثيرا حينما سلمت للسيدة مارتا باقة من الورود اليانعة ثم اتجهتْ صوب المقبرة حيث يرقد زوجها، صرت أبيع زهور التوليب للمسافرين كنت منتشيا جدا وأنا أعود من جديد لسابق حرفتي، شاهدت فجأة الشرطة تلج من الباب الخلفي للمحطة تذكرت أني أخالف القانون مثل هؤلاء البائعين المتجولين وعلي إن أهرب نحو الباب الرئيسي، شعرت بالصدمة من جديد حين رأيت ابنتي مونيك صحبة بعض أصدقائها يدخلون الباب الرئيسي للمحطة، صرت مترددا وأنا بينهما لا أدري أي سبيل أسلك، أشفقت عليك ابنتي مونيك من الحرج الذي قد أسببه لك حينما تشاهدين الشرطة تلقي علي القبض كأي مجرم ضبط متلبسا بأمر مشين، لم أدر أين الهرب فكل الطرق تؤدي إلى الفضيحة، صرت من فرط هلعي أهرول دون وعي مني في اتجاهات شتى، لم أكن أعلم أين أضع قدميّ، توقفت لحظة لكي استرد أنفاسي من جراء التعب الشديد الذي لحق برجليّ الهرمتين لاحظت أن جماهير غفيرة من الناس تنظر نحوي بفزع شديد وتصرخ لكني لم أكن أسمع صياحها، اكتشفت أني أقف فوق السكة الحديدية التي شعرت أنها تهتز من تحت قدمي، حين التفت إلى الوراء رأيت القطار قادما يقترب نحوي بسرعة رهيبة، لم يترك لي مجالا للمناورة أو الهرب، لكني ابتسمت بنشوة لذيذة حين شاهدت طيف فكتوريا يملأ سماء المحطة، رأيتها تناديني وتهمس لي…. “هل اشتقت إلي؟”.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading