إشراقات ثقافية (6)

28 مارس 2023

إشراقات ثقافية
من تقديم أمينة بنونة
صراع المرأة والرجل في القصص الشعبي
د. مصطفى يعلى

ولمّا كانت أنواع القصص الشعبي المختلفة، تزخر بالصراع المرير بين الرجل والمرأة بطريقة أو أخرى، فحتما لن نستطيع هنا في هذا المجال المحدود، تشريح المتون المختلفة لهذا الصراع الأزلي، من أجل الوقوف على شتى تجلياته؛ لذلك نفضل الاكتفاء بالنمذجة له بحكاية دالة، وناهضة على الصراع بين الطرفين، منذ افتتاحية الحكاية إلى اختتامها. وتلك هي حكاية (كيد النساء؟ كيد الرجال؟).
فعكس ما يتوفر في أكثر أنواع القصص الشعبي، فإن الرجل والمرأة يتبادلان موقعيهما، في هذه الحكاية المضطربة أجناسيا بين الحكاية العجيبة والحكاية الشعبية. ذلك أن الرجل هنا هو السباق إلى الهجوم، مبادرا إلى الاستفزاز، في الوقت الذي تظهر المرأة بمظهر المدافع عن النفس، وفي وضع تُفرض عليها فيه مواجهة الكيد بالكيد. كما يقف الرجل غالبا في موقع القوة ماديا واجتماعيا، في حين تنتمي المرأة عادة إلى مستوى متواضع في كلا الأمرين المادي والاجتماعي. وفي هذه الحالة لا تملك المرأة لمواجهة تحرش الرجل بها ومحاولة تحديها واستغلالها، سوى فطنتها وحضور بديهتها وقدرتها على رد الصاع صاعين، أثناء مواقف التباري الكيدي. ليعود في نهاية الحكاية التجانس والوئام للعلاقة الملتبسة بين المرأة والرجل، إما في إطار حياة زوجية منسجمة، أو في ظل علاقات دموية طبيعية داخل الأسرة الواحدة.
ولعل حكاية (كيد النساء؟ كيد الرجال؟)، تسعفنا بالنسبة لهذا التنويع، وهيمنة الصراع الثنائي بين المرأة والرجل، في تلمس رد فعل المرأة وقدراتها على مواجهة الرجل، بل وتحديه بكثير من الكفاءة والندية. ومن هنا تمكنت هذه الحكاية من فرض ذاتها، متنا مناسبا لهذه النمذجة. وهي تتلخص في تعود ابن الملك على مراقبة عائشة بنت النجار، كلما طلعت إلى سطح الدار لسقي (الحبق*) كعادتها يوميا. وذات مرة وبعد أن عرف اسمها، استفزها بطرح لغز معجز عليها :
مولاتي عائشة بنت النجار
يا من تسقي الحبق وترشه
كم من ورق في عرشه.
فأسعفتها بديهتها في الحال بسؤال أكثر إلغازا :
سيدي محمد يا ابن الملك
يا قـارئ كــتـــــــاب الله
كـم من نجمة في السماء
وكـم من سمكة في الماء
وكـم من نقطة في الكتاب
فأسقط في يده، ثم دخل في صراع كيدي موجع معها، يروم حملها على الاعتراف بتفوقه عليها، في القدرة على حل الألغاز، ونصب الأفخاخ سخرية وشماتة، وإرغامها على الاعتراف بغلبة كيد الرجال على كيد النساء. ولما استعصت عائشة على التسليم بالهزيمة، لجأ إلى الزواج بها من أجل إذلالها، حتى تعترف برأيه المفضل لكيد الرجال على كيد النساء. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، يسجنها في ( مطمورة)**، ولا يمكّنها لسدّ رمقها سوى من نصف خبزة من الشعير وبعض الزيتون وبرادة ماء يوميا. وزاد في غيظه أن ضربت له مثالا بليغا في الصبر، فلم تلن ولا تراجعت عن رأيها. مما جعله يمعن في النكاية بها، حيث أخبرها ثلاث مرات بخروجه للنزهة واستمتاعه بامرأة غاية في الجمال والروعة. ولم تكن تلك المرأة في الحقيقة سوى عائشة ذاتها، حيث كانت تسبقه إلى مكان النزهة متنكرة، وتضرب خيمتها قبله وتستضيفه عندها. وكانت نتيجة المغامرات الثلاث، حملها بولدين وبنت. وذات يوم قرر الملك تزويج الأمير ببنت عمه، وخلال الاستعداد للعرس أرسلت أبناءها الثلاثة إلى القصر ليفسدوا ما ينظمه الخدم من أفرشة، لإثارة انتباه والدهم إليهم، وإطلاعه على حقيقة الأمر بواسطة الهدايا التي قدمها لعائشة خلال النزهات الثلاث، مما اضطره لإخراجها من المطمورة، وإقامة عرس ثان لها لم يشهد أحد مثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الحبق: نبات طيب الرائحة وجميل المظهر.
**المطمورة: حغرة كبيرة عميقة، كانت تخزن بها الحبوب في المغرب قديما.
يتبع

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading