ذ . إدريس حيدر
فالذين لم يتشبعوا و يقتنعوا بالأفكار القوية و مضمون المناقشات الثرية و الغنية التي كانت سائدة آنذاك في كل أرجاء المعمور ، اختاروا بعد تخرجهم الانتماء لوزارة الداخلية ،العدل ،الشغل …الخ ،بغية ممارسة السلطة التي كانت تستهويهم و انتسبوا لاسلاك الإدارة ذات الصلة ،و امتهنوا وظائف : القائد ،القاضي ،مفتش الشغل و غيرها .
فيما الباقي الذي اقتنع بالقيم الفضلى و بالنضال من أجل كرامة المواطن و رفعة الوطن ،اختار العمل أساسا في وزارة التعليم و اصبح مدرسا و بالتالي ظل ملتصقا بعالم المعرفة ، أو لبس الجبة السوداء كمحامي بهدف الدفاع عن المظلومين و صيانة حقوق الإنسان في البلاد ،دون أن أنسى من اختار الانتماء إلى مجالات أخرى تعتبر هي الأخرى رافعة للتنمية في البلاد كالهندسة أو الطب…الخ.
و كنت كلما التقيت أحد الأصدقاء الذي أصبح رجل سلطة و هو يرتدي بذلته السوداء و ربطة العنق بلون متناسق معها ،إلا و ذكرته بتلك الأيام الخوالي ،حين كنا ننتشر في الحقول كالجراد لالتهام غللها ، فيضحك ملئ شدقيه.
مر الزمان سريعا ،و تبوء بعض من أصدقائي، مراكز متقدمة و رفيعة سواء في أسلاك الإدارة أو التعليم بكل تصنيفاته ، أو قيادة هيآت ثقافية و حقوقية وطنية .
بل أصبح بعضهم قادة و معتقلين سياسيين ،مما يفيد اندماجهم في الفعل النضالي الوطني .
و بالرغم من مرور ردح من الزمان عن هذه الوقائع ،إلا أن ذاكرتي لازالت ترتد بين الفينة و الأخرى إلى الوراء لتتذكر بعض الأصحاب و مصيرهم .
ف” الجن ” أصبح و منذ مدة طويلة مستخدما في إحدى الفنادق الشعبية بمدينة ” طنجة ” ،و ” الطويهر ” تقاعد من الجدية، و ” اشليح ” تقاعد هو الآخر من عمله بوزارة المالية ، ” العرائشي” توفي بعد أن غرق في البحر الذي كان يعشقه ، و أما الحكواتي ” الصرصري” فقد أصبح بائعا متجهولا لمادة الحمص المسلوق ،و توفي في ظروف غامضة .
هكذا كبر جيل ما بعد الاستقلال في مدينة شمالية صغيرة و مهمشة .
أجل ،إنها مدينة الفقهاء ،الأدباء من شعراء و كتاب ،الفنانين ،بمعنى أن إجواءها العلمية و المعرفية وفرت و ساعدت أبناءها على تنشئة جيدة و حفزتهم عل الفعل الإيجابي ،المنتج و الناجع.
و بالرغم من الفقر ،الحرمان و الحاجة فإن أولئك الأصدقاء عزفوا جميعا و كل من موقعه سمفونية : التفوق ،النجاح و الخلود .
فسلاما أصدقائي سلاما .
انتهى /…