بيان في جوهر الكتابة”

26 نوفمبر 2025


أحمد الشواي

سألوني مرة لماذا اكتب اليوم، ولا ارسم كما عرفوني ذات يوم، ولا اعزف الموسيقى التي كانوا يحبونها ذات زمن ..؟
قلت : لانني وجدت في االكتابة اليوم شكلًا آخر للوجود

أكتب لا لأ صف العالم كما هو، بل لأخلقه كما أراه في لحظة انكشاف نادرة.
فالكتابة ليست تراصًّا للحروف، بل تحوّلٌ للروح إلى لغة، وامتدادٌ خفيّ يبحث له عن موطئ معنى خارج حدود الجسد والزمن.

أكتب كأنني أرسم، لأن الخط وحده قادر على حمل ما تعجز الكلمات عنه:
ارتجافةٌ تسكن ذاكرة منسية،
ظلٌّ يعبر النفس ولا يترك سوى ومضة،
ولونٌ يولد في الفراغ مثل اعتراف لا يجرؤ على الاكتمال.
فالرسم في جوهره كتابة صامتة، والكتابة رسمٌ يسمع صداه من الداخل.

وأكتب كأنني أعزف موسيقى لم نسمعها من قبل، لأن اللحن الحقّ لا يأتي من الذاكرة،
بل من تلك اللحظة التي يرتفع فيها الصوت من عمقٍ لا اسم له.
الكتابة هنا كشفٌ لا تكرار،
وخلقٌ لا استعادة،
ورحلةٌ نحو مناطق لم نعرف وجودها فينا إلا حين انفتحت الكلمات من تلقاء ذاتها.

ومع ذلك، فإن كل كتابة هي بحث عن أثرٍ تبخّر.
وجهٌ مرّ في حياتنا ثم تلاشى،
يومٌ اختطفته رياح لا نعرف إلى أين مضت،
أو لحنٌ كان يرافق خطواتنا قبل أن تبتلعه الطرق البعيدة.
أكتب لأن ثمة ما لم يعد ممكنًا في الواقع، فنستعيده في اللغة.
واللغة ليست إلا محاولة للانتصار على الفناء، ولإعادة ترتيب ما ضاع منّا.

الكتابة زمنٌ بقدر ما هي وجود.
أكتب الماضي كما بقي في أرواحنا، لا كما حدث.
وأكتب الحاضر كما يضغط علينا، لا كما نعيشه.
فالكتابة ليست وصفًا للواقع، بل تشكيلٌ لطرقنا في النجاة منه.
لهذا، فالكتابة ليست مهنة ولا هواية،
بل موقفٌ إنسانيّ يحاول مواجهة هشاشة الذاكرة وثقل الصمت.
الكاتب الحقيقي هو من يجرؤ على إظهار المسافة بين ما يشعر به وما يستطيع التعبير عنه،
وكل نص هو جسر دقيق بين عالمين:
عالمٍ داخلي لا يراه سواه،
وعالمٍ خارجي يطالبه بالمعنى.

أكتب لأن الصمت يتشقق في أعماقنا.
وأكتب لأن الذاكرة تنزلق من بين أصابعنا.
وأكتب لأن العالم، مهما اتسع، لا يسع كل ما نحمله في صدورنا.
ولهذا تصبح الكتابة وطنًا يولد كل مرة من جديد،
وطنًا لا يحتاج إلى أرض، بل إلى صدق.

هذا البيان لا يعرّف الكتابة، بل يعترف بأنها سبيلنا الوحيد لنفهم أنفسنا قبل أن نفهم العالم،
ولنحوّل حياتنا، بكل ما فيها من فقدانٍ وحنين،
إلى أثرٍ يمكن أن يُرى… يُسمع… ويُحسّ،
قبل أن ينقلب مرة أخرى إلى سراب

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading