
الروائي. محمد الجباري
كنتُ ما زلتُ في الفراش حين نظرتُ إلى شاشة الهاتف، تشير عقاربها الرقمية إلى الخامسة والنصف صباحًا. تمنّيتُ لو أن النوم كان أكثر رحمة، ومنحني ساعةً إضافية من ذلك الاسترخاء الدافئ الذي يسبق الصحو.
مددتُ بصري نحو النافذة؛ من خلف الستائر الثقيلة، تسرّبت خيوطٌ باهتة من نور الصباح تخترق بقايا السواد المتشبّث بالسماء. رفعتُ رأسي نحو السقف؛ هناك، في الشقة العلوية، تقطن جارتي الحسناء بيترا وزوجها السكير فريدريك.
بالأمس، عاد فريدريك من الخمارة متأخرًا، بعد منتصف الليل بقليل. سمعتُ وقع خطواته المترنّحة على الدرج، وهو يصطدم بالجدران كمن يختبر اتزان العالم من حوله. لحظات، ثم سمعت طقطقة مفاتيح، ففتح الباب أخيرًا.
من حسن حظ بيترا تلك الليلة أنّ زوجها لم يثر ضجيجًا كعادته، لم يكسّر الأواني، ولم يصرخ أو يشتم أحدًا؛ اكتفى بالنحيب ساعةً كاملة، ثم ساد صمتٌ ثقيلٌ كالموت، فعلمتُ أنه نام.
نظرتُ مجددًا إلى الهاتف؛ أقلّ من نصف ساعة تفصل أطفال بيترا الثلاثة عن موعد المدرسة.
لماذا لم تستيقظ بيترا بعد؟
ذلك الصمت القادم من فوق رأسي بدا غير مألوف، كأنه يخفي شيئًا.
هل أصابها مكروه؟ هل حدث شيء لهم جميعًا؟
راودتني فكرة الاتصال بالشرطة، لكنني تراجعت سريعًا. كيف أشرح لهم الأمر؟ اتصل بالشرطة لأن بيت الجيران غارق في الصمت؟ يا له من بلاغ مضحك!
قلتُ في نفسي: تمهّل قليلًا… ربما لم يحن وقت الخوف بعد.
وفجأة، دوّى فوق السقف وقعُ أقدامٍ متعجلة، مختلطة بأنفاسٍ لاهثة.
بيترا وأطفالها يستعدّون على عجل للمدرسة، كما يبدو.
ابتسمتُ. الهدوء المخيف زال، لكن شيئًا آخر بدأ يتملكني… انتظارٌ أعرفه جيدًا.
لن تتأخر بيترا عن القدوم إليّ بعد خروج الأطفال، كما تفعل في كل مرة يعود فيها فريدريك سكرانًا.
صرتُ أترقّب طرقها على الباب.
حين تأتي، تصرخ، تبكي، وتفرغ كل غضبها في وجهي. لا أقاومها، أحاول تهدئتها، لكنها لا تهدأ إلا بعد أن أصرخ أنا أيضًا، بصوتٍ أعلى من صوتها، كأننا نعيد تمثيل مشهدٍ مألوف نحفظه معًا.
وحين تنتهي، تُصلح مكياجها، ترتّب شعرها، وتغادر مسرعة نحو عملها في البريد.
أبقى بعدها ممددًا على الأريكة، بحبالٍ صوتية محترقة، وصمتٍ ثقيلٍ لا أعرف إن كان راحة… أم فراغًا آخر.
ولجتُ المطبخ. فتحتُ الثلاجة على أمل أن أعثر بداخلها على شهيةٍ مفقودة، لكني في النهاية اكتفيتُ بكوبٍ من القهوة السوداء، علّها تمنحني بعض الدفء في هذا الصباح الماطر الكئيب.
لم ألبث أن أمسكتُ بالكوب حتى سمعتُ طرقاتٍ على الباب من جديد.
– أهلاً، السيد موريس… تفضّل.
– لم آتِ للدخول، أريد فقط أن أستخلص قيمَةَ الكراء. صار الأمر مقرفًا حقًا أن أتسوّل كل شهر نقودي التي في ذمّتك!
آه يا إلهي… هل عليّ في كل مرة أن أذكّر العجوز موريس بأنني سددتُ الكراء بالفعل؟
أمدّ يدي إلى جيبي، أتحسّس الوصل، كأنما هو سلاحي الوحيد في مواجهة ذاكرته المتعبة. لا يدري موريس كم أُبذل من جهدٍ في الحديث حتى أقنعه ويتذكّر… وفي النهاية، كالعادة، يبتسم ويعتذر، ثم يقترح عليّ، بابتسامةٍ وديعة، أن يشاركني الفطور.
أنا الذي سئمتُ إعداد الفطور لنفسي، كيف لي أن أُعدّه الآن لشخصين؟
بدت شهيّته مفتوحة جدًّا، ولسانه أكثر نشاطًا من أي وقتٍ مضى. لا يكفّ عن الثرثرة، حتى خُيّل إليّ أنه لم يأتِ إلا من أجل الكلام لا من أجل الكراء.
ربما عليّ أن أذكّره بأن لديّ موعدًا مع طبيب القرية… وأن عليّ أن أذهب.
حين ولجتُ غرفة النوم، لمحتُ صورة زوجتي موضوعةً فوق طاولةٍ صغيرة بجانب السرير.
مددتُ يدي نحوها، ابتسمتُ لها، وصرتُ ألمس بأصابعي المرتعشة ملامحها في الصورة، كأنني أستعيد شيئًا من دفء أنفاسها.
حدّثتُها بعتابٍ لطيف:
«كيف أنكِ قبل سنةٍ فقط كنتِ أنتِ من ترتّبين مواعيدي، وتستعجلينني للذهاب إلى الطبيب من أجل الفحص السنوي المعتاد؟ كيف لم تذكّريني اليوم بالموعد؟ وتركتِني أبحث عن ربطة عنقٍ مناسبة، وعن شوارب نظيفة، وأصفّف شعري وحدي؟»
صمتُّ قليلًا.
«لقد هرِمتُ عزيزتي… في سنةٍ واحدة فقط كبرتُ أكثر مما كنتُ أتصور. أدركتُ أن أعمق الألم ليس في الشقق الفارغة، بل في الأماكن المكتظّة بالضجيج. لم أكن أعلم أنكِ حين ترحلين، سأعجز عن الكتابة… ولأنني لا أعرف كيف أحبّ بطريقةٍ أخرى، صرتُ أكتب رسائل لا أرسلها.»
بالأمس كنتُ محاطًا بالأصدقاء في النادي، ومع ذلك كنتُ أكثرهم غربة.
كانوا يتجادلون وكأنهم في حلبة مصارعة. كل المواضيع صارت تنذر بمعركة لا جدوى منها… في الوقت الذي كان يخشى الأصدقاء الانهزام في المعارك الكلامية، كان الانهزام الأكبر أمام العمر الذي يلهث نحو المنحدر … كرهتُ كرة القدم، والسياسة، والانتماء. لقد تقدمت في العمر حبيبتي وصرت أجد صعوبة في الحديث والكلام وأرى الحياة أقل وضوحًا، صرت أميل أن أسامح أكثر وأتكلم أقل وألوم نفسي كيف أنني قديما كنت أغضب وأصرخ من أجل لا شيء ولا أفرح حينما استيقظ في الصباح وأنا أملك كل شيء؛ حينما كانت زيارة الطبيب ترفًا وليس موعدًا يتكرر في الأسبوع أكثر من مرة.
صرت أتضايق عزيزتي حينما يُلحّ الأصدقاء على سماع رأيي!
كم هو صعب، في شيخوختي، أن أحتفظ بالحياد.
كانوا يحملقون في وجهي، ينتظرون أن أحدّد موقعي… فخفتُ على حيادي، أو إنسانيتي، وهربتُ منهم إليك، إلى المقبرة، حيث ترقدين.
من المؤسف، عزيزتي، أن لا تجد الإنسانيةُ ملاذًا أفضل من القبور لتحتمي فيه.
حين جلستُ أحتسي قهوتي هذا المساء، شعرتُ أنني ربما تسرّعتُ حين التقيتُ صدفةً بالسيد موريس، وأنا عائدٌ من عند الطبيب. أخبرته بتفاصيل حالتي، كأنني كنت أبحث عمّن أقتسم معه لحظة ضعفي وانكساري.
قلتُ له إن الطبيب أخبرني أن حبالي الصوتية في حالةٍ مهترئة، وأنني قد أفقد القدرة على النطق في أي وقت.
لم يكن من اللائق أن أبوح بذلك لموريس الثرثار… وأعتقد الآن أن الخبر قد انتشر في كل القرية.
أن تتخيّل فقط أنك ستفقد القدرة على الكلام والبوح — أمرٌ فظيع.
سأصحو يومًا على صمتي، وسأرى الكلمات تتردّد في داخلي كصدى بعيدٍ لا يجد طريقه إلى الخارج.
ستنطفئ فجأة شعلة اللغة في فمي ولساني… إنه موتي الأول، الذي يسبق موتي الأخير.
يقول العلماء إن الانهيار الكبير تسبقه دائمًا تصدّعات صغيرة لا ننتبه إليها.
وأنا بدأت أشعر بتلك التشققات في داخلي…
سأعتاد الجلوس بين الناس كما لو أنني خلف زجاجٍ سميك، وحين تشتاق اللغة أن تداعب شفتي، ستتعثر الحروف، وتخونني الكلمات.
سأفتقد صوتي الذي رافقني كل هذا العمر، والذي قرّر أن يسافر فجأة قبلي.
لذلك أمسكتُ آلة التسجيل. لم أكن أريد أن أقول شيئًا محدّدًا، فقط أردتُ أن أحتفظ بصوتي — كما يحتفظ المرء بصورةٍ قديمة يخاف أن يبهتها الزمن.
كنتُ أسجّل حتى لا أنسى صدى نفسي، وإذا ما اشتقتُ إليّ، إلى ذلك الذي كنته يومًا، أعود فأستمع إليّ.
مرّ زمنٌ على صمتي الأبدي.
لم تعد جارتي بيترا تصرخ في وجهي، وتجبرني على الصراخ معها.
صارت تفعل ذلك مع زوجها، وأظن أن حالتها تحسّنت بعد أن خفتت الضوضاء القادمة من فوق.
أما موريس، فلم يعد ينسى أنني سددتُ قيمة الكراء، ولم يعد يرهقني بأسئلته.
صار يكتفي بأن نشرب القهوة معًا، يحدثني ساعةً، ثم يرحل.
ما أجملك يا صديقي حين تكتفي بالكلام عن نفسك فقط.
الأصدقاء في المقهى… لم أعد معنيًّا بمعاركهم اللامنتهية.
صرت أجلس على هامش المشهد، ولا أحد يسأل الأخرس عن رأيه.
بطريقةٍ غريبة، صرتُ حرًّا.
في صمتي مساحةٌ واسعة من الحياد، ظلٌّ بارد بعد نهارٍ طويل من حر الضجيج.
لم أعد مضطرًا لترتيب الجمل، ولا للبحث عن كلمةٍ تُرضي أحدًا.
يكفيني أن أكون مستمعًا هادئًا للعالم، أتركه يتكلم حتى يتعب.
ومنذ أن فقدتُ قدرتي على الكلام، صار العالم أكثر هدوءًا.
غادرتُ المقهى قبل الغروب. وفي الطريق، التقيتُ صدفةً بطبيب القرية. خاطبني معاتبًا:
– آخر مرة التقينا فيها كانت قبل عامين، يومها كنتَ برفقة زوجتك.
حتى إنك لم تأتِ إلى الموعد السنوي المعتاد. ما رأيك أن نرتّب موعدًا قريبًا في العيادة؟!
حاولت قدر الإمكان أن يكون صوتي خافتًا حتى لا يسمع أحد من أهل القرية أن الأخرس يتكلم!!! …
هولندا، نوفمبر 2025