رسالة شكر بمناسبة اليوم العالمي للمدرس 5 أكتوبر

5 أكتوبر 2025

ذ . محمد الشدادي
(إلى من علمنا الطيران بالكلمة، تحية للأستاذ الرهوني الذي أشعل في صفه شمعة الحلم)
…..

في هذا اليوم الذي يحتفي فيه العالم بالمدرس، أجد نفسي أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظات التي صنعت فينا الفرق، وأخص بالشكر أستاذي الفاضل الرهوني لمادة اللغة العربية، الذي تتلمذت عليه بالسنة الثانية إعدادي بالثانوية المحمدية خلال الموسم الدراسي 1982/ 1983 ,
لم يكن مجرد ناقل للدرس، بل كان صانعا للروح، ومهندسا للعقول.
كانت طريقته في التدريس بحق فريدة وملهمة، حيث قسم القسم إلى اربعة صفوف، وجعل في كل صف قائدا يحفز زملاءه، ويشعل فيهم روح التنافس النبيل.
كنت قائد صفي، وكان زميلي مصطفى القرقري (الذي يشتغل اليوم محاميا بالديار الإسبانية) قائد الصف الثاني، وزميلي حميد الغيلاني( أحد أطر المكتب الوطني للكهرباء سابقا) قائد الصف الثالث، أما الصف الرابع فكان قائده هو حسن الغازي إن لم تخن ذاكرتي والذي لا أعرف عن حاله شيئا،وربما قد التحق بأحد التخصصات العسكرية.
هذا التوزيع خلق جوا من التحدي الشريف، وجعل كل تلميذ يبحث، ويجتهد، ويبدع، لا ليرضي الأستاذ فقط، بل ليثبت لنفسه أنه قادر على التميز.
كنا خارج أوقات الدراسة نقرأ، ونبحث، ونأتي بالجديد، فقط لننال كلمة تحفيز ينطق بها أستاذنا القائد الكبير للقسم.
نعم، كانت كلمته تفعل فعلها فينا. كانت تشعل فينا طاقة الاجتهاد، وتحرك فينا رغبة العطاء.
وكان كلما أجاب أحد تلاميذ الصفوف الأربعة عن سؤال، تلقى الصف بأكمله كلمات من الأستاذ، فيحس كل أعضائه بنوع من الاعتزاز والفخر.
وكأنه فريق واحد، ينبض بروح واحدة، يتقاسم الفخر والنجاح، ويحتفل بكل إنجاز وكأنه إنجاز جماعي.
طريقة هذا الأستاذ لم تكن مجرد تقنية تربوية، بل كانت فنا في إشعال الحماس، وذكاء في بناء روح الانتماء.
كلما أجاب أحد التلاميذ عن سؤال، لم يكن هو وحده من يكافأ، بل كان الصف كله يتلقى كلمات التحفيز، فيحس الجميع أن النجاح لا يقاس فرديا، بل يحتفل به جماعيا.
كان القسم يتحول إلى خلية نحل تربوية، حيث كل تلميذ يجتهد لا لينافس الآخر، بل ليضيف إلى رصيد مجموعته، ويسهم في رفع راية صفه.
وهكذا، تحولت الحصة الدراسية إلى ساحة إبداع، والصف إلى مجتمع تعليمي حي، والقراءة إلى عادة يومية، لا واجب مدرسي.
والأجمل من ذلك، أن العلاقة التي كانت تربط قائدي الصفوف الأربعة لم تكن علاقة خصومة أو منافسة عدائية، بل كانت علاقة صداقة قوية، نتنافس ونجتهد، لكننا نظل أصدقاء، نشجع بعضنا ونفرح لنجاح الآخر.
وهذا لم يكن ليحدث لولا الوصفة الذكية التي كان يدير بها الأستاذ الرهوني قسمه، هي خليط من المحبة والتقدير والتحفيز والاجتهاد. حيث زرع فينا روح الاحترام المتبادل، والتنافس الشريف، والانتماء الجماعي.
أتذكر جيدا إحدى حصص الإنشاء حول موضوع الجلباب، وبينما كان الأستاذ يجول بين الصفوف، وقعت عيناه على ورقتي، فأعجب بتعبير كتبته، حيث شبهت بياض الصوف الذي تغسله النساء لغزله ببياض رغوة البحر.
ذلك التشبيه أطربه، فقرأه بصوت مرتفع على القسم، وكانت لحظة لا تنسى، شعرت فيها أن كلماتي لها قيمة، وأن صوتي يسمع، وأنني قادر على التعبير والتميز.
ولم يتوقف الأثر عند الصف، بل امتد إلى خارج المدرسة. كنا نتنافس في قراءة القصص والروايات، وكم التقينا نحن تلاميذ نفس القسم في مكتبة المركز الثقافي بالمدينة، تلك التي كانت تضم ذخيرة من الكتب القيمة يعلم الله أين هي الآن؟ وأين ذهبت ورحلت؟
في هذه المكتبة تعرفنا على العقاد، نجيب محفوظ، جبران خليل جبران، إحسان عبد القدوس، محمد الغزالي، سيد قطب وأخوه محمد، وبنت الشاطئ، كانت القراءة امتدادا للدرس، وكانت المكتبة امتدادا للصف، وكان الأستاذ هو البوابة التي فتحت لنا هذا العالم.
كنا نتسجل في مكتبة المركز الثقافي سنويا، وكان يسمح لنا بأخذ الكتب معنا إلى المنزل لقراءتها. وكم كنا نتبادل عناوين القصص الجميلة فيما بيننا، نرشح ونناقش ونشجع بعضنا البعض.
وهذا ما يمكن تسميته بحق تشجيع القراءة بالقرين، حيث يصبح الزميل محفزا، والكتاب رابطا، والمكتبة فضاء حيا للتعلم الجماعي.
ولا أنسى أن أوجه شكري العميق بمناسبة هذا اليوم لمسيري مكتبة المركز الثقافي آنذاك، التي كان مديرها المرحوم محمد الكنوني، والموظف سي محمد المصباحي، وسي عبدالله وغيرهم من الموظفين الذين كانوا يستقبلوننا بابتسامة صادقة، ويمدون لنا يد العون والمساعدة.
وكلما سألناهم عن موضوع بحث، أرشدونا إلى الكتب التي تحمل الجواب، بل كانوا يفتحون لنا أبوابا من الفكر لم نكن نعرفها، فكنا نجد فيهم الموجه والمرشد والدليل.
كانوا بحق نعم اليد الممدودة لكل قارئ أو باحث، ونماذج تستحق منا كل الشكر والتقدير.
إن هدفي من ذكر هذه التجربة ليس فقط الوفاء، بل الدعوة للاقتداء بمثل هذه النماذج.
دعوة لكل المدرسين اليوم إلى إعادة الحياة إلى الصف، وتنشيط روح التعلم، عبر أساليب تربوية تشعل الحماس وتعيد للتلاميذ عشق القراءة في زمن استحوذت فيه وسائل التواصل على أوقاتهم.
فمثل هذه الطرق التي تعتمد العمل في مجموعات، وتحفز التنافس الشريف، وتشجع القراءة بالقرين، وإظهار المحبة للتلميذ، تسهم في إعادة الاعتبار للكتاب، وتعيد بناء العلاقة بين التلميذ والمعرفة، لا كواجب مدرسي، بل كاكتشاف ممتع.
أستاذي الرهوني ، شكرا لأنك آمنت بنا، شكرا لأنك جعلت من الصف ساحة إبداع، ومن الكلمة جسرا نحو الثقة.
دمت منارة للعلم، وملهما للأجيال، وكل عام وأنت بخير في يومك العالمي الذي أرفع فيه قلمي وقلبي لأشكرك أستاذي، الذي لا أعرف أين أنت اليوم، هل ما زالت على قيد الحياة أم غادرتنا إلى دار البقاء، لكن أثرك فينا حيا لا يموت.
علمتنا كيف نكتب، كيف نعبر، كيف نؤمن بأنفسنا، وكيف نرى في الكلمة نورا، وفي المعرفة جناحا.
إن كنت حيا، فلك منا دعاء المحبة والامتنان، وإن كنت قد رحلت، فلك منا دعاء الرحمة والخلود.
أستاذي، إن كنت تقرأ هذه الكلمات أو يقرأها من يعرفك، فليعلم أنك زرعت فينا بذرة لن تذبل، وأنك كنت من أول من أشعل في أنفسنا شمعة الحلم.
دمت حيا في ذاكرتنا، وحيا في كل حرف نكتبه، وحيا في كل نجاح نحققه.
تلميذك الذي لن ينسى،
محمد الشدادي.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading