
– بقلم يوسف الصياري:
في سنّ المراهقة، وفي لحظة عبث عفوي، التُقطت صورة تختزل أكثر مما كانت تقوله في حينها. مشهد بدا تمثيليًا، وربما انتقاميًا على سبيل المزاح، أو تفريغ داخلي لم يُفهم لحظتها : أنا ممسك بمسدس بلاستيكي، واقفٌ كمنتصر، وصديقي يتمدد على الأرض في دور “الضحية”، أضع يدي على فمه وكأننا نُعيد تمثيل مشهد بوليسي مألوف (القوي والضعيف، الظالم والمظلوم…).
لم تكن الصورة مجرد لعب، وربما لم تكن بريئة تمامًا، كانت بشكل ما تعبيرًا رمزيًا عن قوة مؤقتة، عن رغبة داخلية في الشعور بالهيمنة، أو رد اعتبار متخيَّل. لكنها رغم ذلك لم تكن سوى لحظة إلتقطتها عدسة الكاميرا، ثم اختفت كما تختفي أغلب لحظات المراهقة.
لكن الحياة، كما لو أنها شاهدت الصورة، قررت أن تعيد تمثيلها، لكن هذه المرة بواقعية جارحة، وبوجوه مختلفة. لم نعد نحمل مسدسات بلاستيكية، بل نحمل شكايات، ملفات، طلبات، أسئلة مشروعة. لم نعد نلعب بل نحاول البقاء.
كبرنا واكتشفنا أن العالم ليس ساحة نزيهة، وأن الطيبة وحدها لا تضمن لك النجاة. صرنا نواجه مشاهد تشبه تلك الصورة، ولكن دون كاميرا، ودون تمثيل.
الوحوش التي نواجهها اليوم لا تزأر ولا تركض خلفك، ولا تظهر في شكلها الكلاسيكي، بل تنتظرك خلف المكاتب، ترد بصمت أو لا ترد أبدًا. وحوش بربطات عنق، بابتسامات ميتة، بمناصب لا تستحقها. وحوش لا تستخدم العنف الجسدي، لكنها تمارس عنفًا من نوع آخر : الإجراءات المعقدة والصمت والتجاهل، وفي الردود الغامضة والعبث بمصيرك وأنت تنظر عاجزًا.
اكتشفنا أن الطيبة لا تكفي، وأن الصمت لا يُنصف. وُضعنا في مواقف كنا فيها نحن الضحايا، بينما الوحوش كانت ترتدي ربطات عنق، تُمارس عنفها بصمت وبالقانون كما يعتقدون.
جربنا أن نكون محترمين، أن نكتب ونناشد ونُطالب، لكننا للأسف كنا نُستنزف. حتى أدركنا الحقيقة البسيطة والمؤلمة :
الطريقة الوحيدة لمواجهة الوحوش، هي أن تصبح وحشًا أعظم.
لا بالأذى ولا بالفساد، بل بالصلابة والوعي وبالقدرة على المواجهة الذكية. أن تكون منيعًا يعني أن تكون حاضرًا، فطنًا لا تهزّك التهديدات، ولا تُسكتك العقبات. أن تنهض للمواجهة بالحكمة والقوة رغم السقوط، أن تكون مستقلاً في تحروكاتك وتعرف متى تهاجم ومتى تتراجع وكيف تقاوم.
الصورة التي التُقطت يومًا بمزاج عبثي أو رغبة دفينة في الانتصار، أصبحت اليوم مرآة صادقة :
أنك حين يُداس عليك مرارًا، قد يأتي يوم تنهض فيه لا كضحية، بل كوحش لا يُقهَر ولا يتراجع.