مشاهد متفرقة من مذكراتي كسائق سيارة اجرة في باريس)

1 أغسطس 2025


بقلم : لبيب المسعدي :

ظهيرة في شارع ريفولي
يدق عداد التاكسي كقلبٍ مذعور.
في المقعد الخلفي، سيدة فرنسية تمسح أحمر شفاهها بمنشفة ورقية كأنها تمسح أثرَ لمسة غير مرغوب فيها.
“المطر يقذف باريس كاللعنة!” تشتكي بينما أنظف زجاجاً تتسلّق عليه قطراتٌ الرطوبة التي تشبه دموع أولادي في في محكمة الأسرة أو أمام محطة القطار في الزيارة الأخيرة.
أشمّ رائحة عطرها الفاخر..
تختنق أنفاسي بذكرى ابنتي نيرمين وهي تلصق أنفها بمعطفي المبلّل بالمطار (دموعي)

يد صغيرة تدق على زجاج نافذة السيارة من الجهة اليسرى.
نهارك سعيد سيدي، هل برج إيفل يلمع لأنّه يأكل نجوم السماء؟
صبيٌّ أشقر يلمع فضوله كالذهب.
ألتقطُ كلماتي الفرنسية التي اكتسبتها بعناية. ثم أجبت:
إنه يلمع لأن باريس تلبس تاجا كل ليلة.
في المرآة أراه يضحك، فتتحول شفتاه إلى فم ابنتي نيرمين عندما كانت تطلب مني حكاية قبل النوم.
اشعل سيجارة بشراهة ثم أضغط على دواسة البنزين كمن يهرب من شبحٍ جميل.

عند محطة “ليون”، ركبت امرأةٌ تحمل حقيبة جلدية مبعثرة الأطراف.
إلى مستشفى سان لويس، يابني.. السرطان لا ينتظرتقول وكأنها تطلب كأس ماء.
ظلّها يرتجف في مقعدي الخلفي كعصفور مبلل.
عند وصولنا، تدفع لي ورقة نقدية من فئة خمسين أورو، وهي تقول احتفظ بالباقي، الباقي كان اكثر من ثمن الرحلة أصلا. كان علي أرفض، كان علي أن استبق الفعل و أصارحها برغبتي الإنسانية بأن اهديها ثمن هاته الرحلة لكنها غادرت عالمي و ذهبت الى المستشفى.
تبعت خطاها الى مكتب الاستقبالات، وسألت عن زبونتي بعد وصف شكلها. فقيل لي أن لها موعد بقسم الأشعة الكيميائية وأن الحصة لا تتعدى خمسة عشر دقائق كأعلى تقدير. عدت لأركن سيارتي أمام الباب الرئيسي للمستشفى و انتظرتها. بعد قرابة نصف ساعة لمحت طيفها عند زجاج الباب الكبير، فهمت أنها تطلب إرسال سيارة أجرة آخرى كي تعود من حيث أتت. اقتربت لها مسرعا، سيدتي أنا السائق الذي جاء بك و أنا من سأعود بك سالمة الى دويك.
أمسكت بها كمن يمسك جمرة..
في عينيها رأيتُ وجه أمي وهي تدفن صور أبي في حديقة الدار.

(بقية القصة ليست للنشر بل ذكريات خاصة احتفض بها لنفسي )

شاب ألماني يلتقط صوراً لسقف السيارة المتشقّق.
قال: ” وكأنها كخريطة لجروح باريس يوما زارها هيلتر إبان الحرب العالمية الثانيث و يضحك.
فهمت أن الماتل أمامي أجهل من بائع الجعة المهربة بدوار الكشاشرة ضواحي مدينتي الأم. و بكل هدوء، و بكل ثقة نفس وباللغة الإنجليزية التي أتقن فيها فقط عبارة ( أي سپيك دجاست ليتل إننچليش)، حدثته عن زجاج المرسيدس 270 حرف E الذي يحمل خدوشَ عاصفة رملية مرّت به قادمة من الصحراء المغربية.
يسألني: هل تشتاق للرمال؟
أشير إلى غبار باريس العالق على زجاج سيارتي:
لو كنت يا سيدي على دراية بعلوم الطقس لكان من السهل علي كي أشرح لك ان هاتت الرمال هي رمالي .. وأنها لا تعرف قوانين الحدود، لا تتذكر أقدام من مشوا عليها، ثم استسلمت لهيتستيرا من الضحك الساخر الذي أريح نفسي به كصلوات التراويح.

#لبيبيات
باريس 2010

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading