قصة المنزه

3 مارس 2025

بقلم : ذ . زكرياء الساحلي
في إحدى الليالي الجامعية بتطوان، تلقينا اتصالا عاجلا من رفاقنا في الحي الجامعي بطنجة يدعوننا لدعمهم في معركتهم النضالية، لم نكن من “العاگزين”، ركبنا حافلة مكدسة بالمناضلين وتوجهنا صوب مدينة البوغاز، وصلنا في الموعد تمامًا، هاتفين بأعلى أصواتنا وسط الجموع “بالوحدة والتضامن ليبغيناه يكون عيكون”
بعد انتهاء الشكل النضالي، دعانا الرفاق إلى وجبة غداء جماعية، كنتُ حينها أرتجف جوعا، فلم أتناول فطوري صباحا، كما أن صوتي بحَّ من كثرة الصراخ، لكن حين وُضعت بضع أطباق على الطاولات، لم يكن فيها سوى أرز مسلوق لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
مددتُ يدي بصعوبة بين جوقة من الرؤوس المتحلقة على الطاولة، فالتهمتُ بالكاد ثلاث ملاعق، قبل أن تجرف موجة الطلبة كل شيء كما يجرف الطوفان الأشجار اليابسة.
لمحتُ أحد رفاقي من أبناء القصر الكبير يرمقني بنظرة ذات مغزى، فانسحبتُ معه برفقة ثلاثة آخرين إلى غرفته، حيث أخرج لنا طبقا من “اللّوبيا” كان مخبأ تحت سريره، التهمناه بشراهة كأننا نأكل الحياة نفسها.
حلّ الليل سريعًا، فقررنا نحن الأربعة استنشاق هواء طنجة الساحر، استقللنا سيارة أجرة من “بوخالف” إلى وسط المدينة، ووجدنا أنفسنا فجأة أمام فندق “المنزه” الفاخر الذي كان يعجّ بالأضواء والأناقة، ولافتة كبيرة تعلن عن “نهاية الدوري الدولي السابع للشطرنج”.
بالرغم من الحراسة المشددة عند المدخل، دخلنا بسلاسة غريبة، لنجد أنفسنا في بهو فسيح يعج بالشخصيات المرموقة، بينهم والي جهة طنجة تطوان، وقنوات تلفزية تغطي حدث توزيع الجوائز على الفائزين، لم نكن نكترث لهذا كله؛ فقد كانت أنظارنا مثبتة على شيء واحد، البوفيه الفاخر الممتد أمامنا كالحلم.
ما إن انتهى الحفل حتى انقضضنا على الطاولات كما ينقض الجراد على حقول القمح، ملأنا جيوبنا بالمكسرات الفاخرة، والتهمنا قطع الشوكولاتة الداكنة المحشوة بالبندق، والكعك المزين بطبقات من الكريمة المخملية والفواكه الاستوائية، ثم ابتلعنا العصائر الطازجة والمشروبات الفوارة، وما إن انتهينا حتى بدأ الفوج الثاني من الطعام بالظهور، أطباق من شرائح اللحم المعتقة المشوية بإتقان، دجاج محمر بجلدته اللامعة، أفخاذ الحمام المقرمشة، الروبيان المتبل بالأعشاب المتوسطية، أصناف لا تُقاوم تأخذك إلى عالم آخر من الفخامة التي لم نعهد بها في حياتنا الكادحة.
حملت النادلات الأطباق وبدأن في التجول بين الضيوف، لكننا كنا لهن بالمرصاد، نُفرغ كل طبق قبل أن يصل إلى غيرنا.
بعد أن كشفت اللجنة المنظمة أمرنا، أعطت تعليماتها للنادلات بتجنبنا، وردا على هذا القرار الجائر في حققنا قررنا الوقوف أمام الباب الذي يخرج منه الطعام، كأننا قطاع الطرق، لكن بدل نهب المال كنا ننهب اللحم المشوي.
لم يطل الأمر حتى اقتربت منا إحدى النادلات، تطلعت إلينا باشمئزاز وقالت:
– خايلاه، منين جيتو؟
أجبناها بكل ثقة:
– حنا ولاد طنجة.
لكن لم يمضِ الكثير حتى لجأت النادلات إلى خطة جديدة، فقد قررن الخروج بسرعة وهن رافعات الأطباق بأيديهن لأعلى حتى لا نتمكن من إلتقاط أي شيء.
انتبهى صديقي المعروف عنه دقة الملاحظة إلى أمر هام، اقترب منا وقال:
– لاحظوا يا رفاق كل الأطباق تمر وجوبا أمام الوالي إنه ضيف البارز في هذا الحفل.
ما هي إلا لحظات حتى كنا قربه نشاركه الحديث كأننا جزءًا من وفده الرسمي، نُحرّك رؤوسنا بتفهم عميق بينما كان يتحدث مع بعض الأجانب، في حين أن أيدينا كانت تلتهم المشوية المارة من أمامه بخفة ودقة مدروسة.
لأول مرة في حياتي، شعرت أن جهازي الهضمي ممتلئ حتى الحلق، وأنني لو زدت قضمة واحدة قد تنفجر معدتي في الفندق، وقبل المغادرة سألنا أحد الموظفين عن مكان المراحيض، فأرشدنا إليها لكنه دخل معنا، وحين سألناه عن السبب، رمقنا بنظرة ساخرة وقال:
– كنخاف لا تاكلو حتى الصابونة، راه هي الحاجة الوحيدة اللي خليتوها فهاد الأوطيل!

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading