ذة : سمية نخشى
ما تبينت حقيقة المشاعر التي انتابتني حين سمعت و قرأت عن خبر الفاجعة التي حلت مؤخرا بمدينتنا العجائبية : حزن على غضب على حسرة……و ما جبنت يوما عن تناول موضوع مثلما حدث معي هذه المرة. صدمتي كانت عنيفة و كأنه لم يسبق لي أن شاهدت بعض مدمني الكحول ( لالكول ) على قارعة الطريق و جنبات الشوارع ، أو عرفت بعضهم عن قرب ، لكن العادة تقتل الفضول الإنساني ، تعودنا على مشاهدة ظاهر معاناتهم ، فما عادت تثير انتباهنا ، إلى أن استيقظنا على ضجة إعلامية، تهاطلت فيها التعليقات و انهالت على رؤوسنا عبارات النعي و الإخبار، بين ما يحمل حزنا أو يضمر ارتياحا و تشفيا، بين من اعتبرهم ضحايا و من أدانهم كعصاة آثمين . ثم تقارع الناس في تحديد مصائرهم الاخروية ، فهذا يراهم شهداء و يغبطهم على الجنة و ذاك يستعيد بالرحمان من كفرهم و يتوعدهم بنار جهنم خالدين فيها. .
ولا يخفى علينا اننا شعب يبدع في فن المحاكمات، و يتفوق في الإمساك بكل المهام إذ نقوم بدور الخصم و الحكم و الجلاد.
اما هم ، فقد رفضوا هذا المجتمع ، و اختاروا طوعا أو قسرا الشارع ، ملاذا و مسكنا لهم. افترشوا الأرض و التحفوا السماء ، ربما لأن رحابة الشارع كانت أحن عليهم من جدران البيوت، و ربما لأنه يؤمن لهم الحرية الوهمية المنشودة ، و لو في تعاطي الكحول و المخدرات . هابوا النهار و استأنسوا بالليل ، فانقضت عليهم ذئاب بشرية ، تقتات على اوجاعهم
، تستغل حاجة بقايا أجسادهم لما يسكن آلامها و عوز عقولهم لما يخدر وعيا اشقاهم ، كي يتمكنوا من البقاء و ليس من العيش ، فقد وقعوا في قبضة الإدمان الذي لا يفرج بسهولة عن اسراه ، و يوصد في اوجههم أبواب النجاة.
ثم رحلوا في ليلة ، اتخيلها، دهماء غير مقمرة، اختلط فيها عواء ذئاب شمت رائحة الموت بعويل صفارات الإنذار لسيارات الإسعاف التي كانت تركض هنا و هناك تلتقط أجسادا بشرية منهكة يعتصرها الألم ، لتلفظ أنفاسها الأخيرة، ربما غير آسفة على حياة لم تنصف أصحابها و على واقع هربت منه لهلوسة الإدمان .
تجرعوا مرارة الحياة ، و لم ترحمهم قساوة الموت . طلبوا الحياة التي هزمتهم ، و هم يغترفون ماء الحياة ، فانتصروا عليها بالموت.
في هذه المرة لم يتمكن الذئب البشري من ضبط الوصفة السحرية رخيصة الثمن لجلب السعادة ، الراحة و الثقة بالنفس المفتقدة…… الوصفة التي تمنح المدمن في تيهانه ما يفتقده في واقعه ،و بين مطرقة الفقر و سندان الحاجة للمخدر، افتقدوا الحق في العيش الكريم و ضاع حقهم في الموت الكريم. و بين هذا و ذاك تم اغتيالهم بماء الحياة ، لتظل ذكراهم شاهدة على الاعطاب الاجتماعية التي تنخر واقعنا. و ما استفز قلمي و ايقظني من سبات هول الصدمة هو مشهد أحدهم، كان يمر بجانبي في الشارع العمومي و هو يحشر انفه داخل كيس بلاستيكي، فيبادره شخص على الرصيف الآخر ضاحكا :” صاحبي… زكلت الموت…”
أدركت حجم الكارثة التي لم تكن تطوراتها تحت السيطرة، انضاف لها تداول نبأ إصابة بعض الناجين من الفاجعة بالعمى..
فما ذنب هؤلاء المعذبون في الأرض ، أذنبهم انهم وجدوا في وطن لا يحمي أبناءه ، و الوطن قدر لا يختاره الإنسان ، أم ربما إثمهم انهم أبناء أسر لم تتمكن من إحتوائهم و تتبع مساراتهم ضمن مجموع الاكراهات المتفاقمة ، أم ربما أيضا أن معصيتهم هي تصرفات نزقة طائشة أو اختيارات خاطئة لوحت بهم لغياهب الضياع وجعلتهم يسقطون بين براثن الإدمان. هي إذن شبكة مركبة تتقاطع فيها الأدوار ، لكن النتيجة كانت مأساوية لم يتمكن أحد من السيطرة
على تطوراتها ، موت جماعي، انتحار جماعي أو اغتيال جماعي.
التسمية صعبة و التصنيف عصي ، أما تحديد المسؤوليات فمغامرة تحسب عواقبها ، لكن المؤكد انها مشتركة بين المؤسسات، المجتمع المدني و الأسرة.
و اليقين إن لكل واحد منهم حكاية ، اختلفوا في تفاصيلها و و توحدوا في نهايتها المأساوية، كما اجتمعوا على تحويلها لأسطورةدراماتيكية ، فاق عدد الضحايا فيها عدد شهداء غارة إسرائيلية على منطقة في قطاع غزة.، ستذكر المدينة دوما
بتقصيرها في حق أبنائها الذين رحلوا غصبا ، و كأني بلسان حال بعضهم يردد مع الشريف قتادة ابو عزيز أمير مكة :
بلادي و إن جارت علي عزيزة.
و أهلي و إن ضنوا علي كرام.
حتى رحيلهم بتلك الطريقة لا نتبين ماهيته، اظلما ام خلاصا لهم.
لكن المهم الآن هو الانتباه لحدث لم يكن عرضيا و لا اعتياديا ، و حمله محمل الجد باعتباره ظاهرة اجتماعية تحتاج رصدا و دراسة ، فإذا كان عدد الضحايا يفوق العشرين فما هو العدد الحقيقي للمدمنين و المشردين بمدينتنا ؟
إنه مؤشر على حقيقة أوضاع مدن الشمال بصفة عامة ، و المدن المهمشة، المتناثرة اشلاؤها بين الفقر و الجهل و المخدرات ، و النتيجة تفشي ظاهرة الانتحار بأساليب متعددة، شنقا أو احتراقا بماء الحياة .
هنا تعطلت عندي لغة الكلام أو انتهى الكلام و لو أنني أكره هذه العبارة المشبوهة.
فلطفا يا الله لم تندمل بعد جراح حرائق الغابات و الأنعام لتندلع حرائق الأرواح. نسألك اللهم رحمة و مغفرة لأرواح الضحايا و الصبر و السلوان لذويهم، و انا لله و انا اليه لراجعون.
سمية نخشى في 10 \10\2022