“شيء من الهلوسة ” نهاية لم تكن تحت السيطرة.

11 أكتوبر 2022

ذة : سمية نخشى 

ما تبينت حقيقة المشاعر التي انتابتني حين سمعت و قرأت عن خبر الفاجعة التي حلت مؤخرا بمدينتنا العجائبية : حزن على غضب على حسرة……و ما جبنت يوما عن تناول موضوع مثلما حدث معي هذه المرة. صدمتي كانت عنيفة و كأنه لم يسبق لي أن شاهدت بعض مدمني الكحول ( لالكول ) على قارعة الطريق و جنبات الشوارع ، أو عرفت بعضهم عن قرب ، لكن العادة تقتل الفضول الإنساني ، تعودنا على مشاهدة ظاهر معاناتهم ، فما عادت تثير انتباهنا ، إلى أن استيقظنا على ضجة إعلامية، تهاطلت فيها التعليقات و انهالت على رؤوسنا عبارات النعي و الإخبار، بين ما يحمل حزنا أو يضمر ارتياحا و تشفيا، بين من اعتبرهم ضحايا و من أدانهم كعصاة آثمين . ثم تقارع الناس في تحديد مصائرهم الاخروية ، فهذا يراهم شهداء و يغبطهم على الجنة و ذاك يستعيد بالرحمان من كفرهم و يتوعدهم بنار جهنم خالدين فيها. .
ولا يخفى علينا اننا شعب يبدع في فن المحاكمات، و يتفوق في الإمساك بكل المهام إذ نقوم بدور الخصم و الحكم و الجلاد.
اما هم ، فقد رفضوا هذا المجتمع ، و اختاروا طوعا أو قسرا الشارع ، ملاذا و مسكنا لهم. افترشوا الأرض و التحفوا السماء ، ربما لأن رحابة الشارع كانت أحن عليهم من جدران البيوت، و ربما لأنه يؤمن لهم الحرية الوهمية المنشودة ، و لو في تعاطي الكحول و المخدرات . هابوا النهار و استأنسوا بالليل ، فانقضت عليهم ذئاب بشرية ، تقتات على اوجاعهم
، تستغل حاجة بقايا أجسادهم لما يسكن آلامها و عوز عقولهم لما يخدر وعيا اشقاهم ، كي يتمكنوا من البقاء و ليس من العيش ، فقد وقعوا في قبضة الإدمان الذي لا يفرج بسهولة عن اسراه ، و يوصد في اوجههم أبواب النجاة.
ثم رحلوا في ليلة ، اتخيلها، دهماء غير مقمرة، اختلط فيها عواء ذئاب شمت رائحة الموت بعويل صفارات الإنذار لسيارات الإسعاف التي كانت تركض هنا و هناك تلتقط أجسادا بشرية منهكة يعتصرها الألم ، لتلفظ أنفاسها الأخيرة، ربما غير آسفة على حياة لم تنصف أصحابها و على واقع هربت منه لهلوسة الإدمان .
تجرعوا مرارة الحياة ، و لم ترحمهم قساوة الموت . طلبوا الحياة التي هزمتهم ، و هم يغترفون ماء الحياة ، فانتصروا عليها بالموت.
في هذه المرة لم يتمكن الذئب البشري من ضبط الوصفة السحرية رخيصة الثمن لجلب السعادة ، الراحة و الثقة بالنفس المفتقدة…… الوصفة التي تمنح المدمن في تيهانه ما يفتقده في واقعه ،و بين مطرقة الفقر و سندان الحاجة للمخدر، افتقدوا الحق في العيش الكريم و ضاع حقهم في الموت الكريم. و بين هذا و ذاك تم اغتيالهم بماء الحياة ، لتظل ذكراهم شاهدة على الاعطاب الاجتماعية التي تنخر واقعنا. و ما استفز قلمي و ايقظني من سبات هول الصدمة هو مشهد أحدهم، كان يمر بجانبي في الشارع العمومي و هو يحشر انفه داخل كيس بلاستيكي، فيبادره شخص على الرصيف الآخر ضاحكا :” صاحبي… زكلت الموت…”
أدركت حجم الكارثة التي لم تكن تطوراتها تحت السيطرة، انضاف لها تداول نبأ إصابة بعض الناجين من الفاجعة بالعمى..
فما ذنب هؤلاء المعذبون في الأرض ، أذنبهم انهم وجدوا في وطن لا يحمي أبناءه ، و الوطن قدر لا يختاره الإنسان ، أم ربما إثمهم انهم أبناء أسر لم تتمكن من إحتوائهم و تتبع مساراتهم ضمن مجموع الاكراهات المتفاقمة ، أم ربما أيضا أن معصيتهم هي تصرفات نزقة طائشة أو اختيارات خاطئة لوحت بهم لغياهب الضياع وجعلتهم يسقطون بين براثن الإدمان. هي إذن شبكة مركبة تتقاطع فيها الأدوار ، لكن النتيجة كانت مأساوية لم يتمكن أحد من السيطرة
على تطوراتها ، موت جماعي، انتحار جماعي أو اغتيال جماعي.
التسمية صعبة و التصنيف عصي ، أما تحديد المسؤوليات فمغامرة تحسب عواقبها ، لكن المؤكد انها مشتركة بين المؤسسات، المجتمع المدني و الأسرة.
و اليقين إن لكل واحد منهم حكاية ، اختلفوا في تفاصيلها و و توحدوا في نهايتها المأساوية، كما اجتمعوا على تحويلها لأسطورةدراماتيكية ، فاق عدد الضحايا فيها عدد شهداء غارة إسرائيلية على منطقة في قطاع غزة.، ستذكر المدينة دوما
بتقصيرها في حق أبنائها الذين رحلوا غصبا ، و كأني بلسان حال بعضهم يردد مع الشريف قتادة ابو عزيز أمير مكة :
بلادي و إن جارت علي عزيزة.
و أهلي و إن ضنوا علي كرام.
حتى رحيلهم بتلك الطريقة لا نتبين ماهيته، اظلما ام خلاصا لهم.
لكن المهم الآن هو الانتباه لحدث لم يكن عرضيا و لا اعتياديا ، و حمله محمل الجد باعتباره ظاهرة اجتماعية تحتاج رصدا و دراسة ، فإذا كان عدد الضحايا يفوق العشرين فما هو العدد الحقيقي للمدمنين و المشردين بمدينتنا ؟
إنه مؤشر على حقيقة أوضاع مدن الشمال بصفة عامة ، و المدن المهمشة، المتناثرة اشلاؤها بين الفقر و الجهل و المخدرات ، و النتيجة تفشي ظاهرة الانتحار بأساليب متعددة، شنقا أو احتراقا بماء الحياة .
هنا تعطلت عندي لغة الكلام أو انتهى الكلام و لو أنني أكره هذه العبارة المشبوهة.
فلطفا يا الله لم تندمل بعد جراح حرائق الغابات و الأنعام لتندلع حرائق الأرواح. نسألك اللهم رحمة و مغفرة لأرواح الضحايا و الصبر و السلوان لذويهم، و انا لله و انا اليه لراجعون.

سمية نخشى في 10 \10\2022

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading