
بقلم : لبيب المسعدي
بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وبكلمات تفيض حبا ووفاء، ننعي إلى قلوبنا قبل أسماعنا، المربي الفاضل، معلمنا الحبيب، أبا الطفولة، السي عبد الرحمن.
حضورك لن يغيب أبدا عن قلوبنا وذاكرتنا. كيف تغيب وأنت من زرعت في أول بذرة حرف، وأول نغمة نشيد، وأول بصمة لون؟
فشكرا لك. على كل حرف. على الألف الذي علمتنا إياه لينطق باسم “الله”، وعلى الباء الذي فتح أمامنا أبواب المعرفة. شكرا على كل مرة رددناها خلفك حتى استقر الحرف في أذهاننا الصغيرة، فكنت لي ولبراعم روض روض الأطفال لأجيال عديدة كالأب الحاني الذي يعلم ولده النطق.
شكرا لك. على كل نشيد، كان صوتك هو الموسيقى الأولى في حياتنا، غرست فينا من خلال الأناشيد حب الوطن، والطهر، والجمال. كانت كلماتك تحلق بنا في سماء من البراءة، نرددها وقلوبنا ترفرف فرحا.
شكرا لك.. على كل سورة من القرآن. قأنت من أمسكت بأيدينا الصغيرة لتخطو أول خطوة في طريق حفظ كتاب الله، من (الفاتحة) إلى (الناس) تنقلنا برفق من حرف إلى آية، ومن آية إلى سورة، فغدت كلمات القرآن جزءًا من نسيج أرواحنا بفضلك.
شكرا لك.. على كل حديث نبوي شريف. علمتنا إياه لنعرف كيف نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف نكون أطفالا صالحين نبتسم في وجوه الآخرين، ونحترم الكبير، ونعطف على الصغير. علمتنا آداب المائدة، وآداب المجلس، وأسس الأخلاق الفاضلة.
شكرا لك. على كل رسمة. على كل لون. كانت يدك ترشد يدنا لنخط أول دوامة، ونلون أول شمس. علمتنا أن العالم جميل بألوانه، وأن الإبداع هو أن نرى الجمال في أبسط الأشياء.
شكرا لك. على كل حفل في الروض. حيث جعلت منا نجوما صغارا على خشبة مسرح، نرقص ونتلو الأناشيد أمام آبائنا بكل براءة وثقة. كنت تزرع فينا الشجاعة وتكسر حاجز الخوف.
شكرا لك.. على كل حضن دافئ، على كل قبلة على جبيننا.
التي كانت تشعرنا بأن الروض بيتنا الثاني، وبأنك الأب الذي ينتظرنا كل صباح. كان حنانك هو الدفء الذي احتجناه.
شكرا لك.. حتى على تلك الضربة اللطيفة بالعصا على أيدينا، فلم تكن أبدا لإيذائنا، بل كانت درسا في المسؤولية، وفي أن للحياة ضوابط وقوانين يجب أن نتعلمها. كانت لتقويم لا لكسر، كانت رحمة في هيئة أدب.
أتذكر وأنت في عمر الشموخ. بقيت في قلبي ذلك المعلم الذي أركض إليه مسرعا كلما عدت إلى مدينتي الأم. أتذكر تلك اللقاءات التي كانت تشبه الأحلام. كنت أركض نحوك كالطفل الصغير، لا يهمني من يراني، لأقبل يديك المباركتين بكل خشوع وإجلال. وذاك العطر.. العطر الخاص بك الذي لا أنساه. كان ينبعث منك كأنه قادم من الجنة، يملأ رئتي براحة لا توصف، فيرحل بي إلى ماض جميل، إلى سنوات الروض والبراءة. ذلك العطر الذي انطبع في ذاكرتي كالنقش في الذهب، حتى أصبح جزءا من روحي. ثم حين طار غراب الشيب، وخانتك الصحة، وضعف بصرك.. كنت كلما اقتربت منك أنحني على رأسك، أقبل يديك، وأسألك بخوف ورجاء: هل عرفتني فكانت المعجزة. لم تكن عيناك لتراني، لكن قلبك الكبير كان يراني. كانت روحك تعرف روحي. في لمحة واحدة، من نبرة صوتي وحدها، كانت تدرك حقيقة من أكون. فترتفع ابتسامتك الرحمية، الشاسعة كالسماء، وتقول بصوتك الواثق الحاني الذي لا يُنسى: “لبيبببب الحبيب ديالي🥲🥲🥲
كانت هذه الكلمات تغمر قلبي طمأنينة وحبا.
أنعيك اليوم وقد رحلت عنا، وحتى قبل رحيلك. كنت أدرك أنك لم تكن مجرد معلم، بل كنت الحديقة التي ازدهرنا في رحابها، وكنت البستاني الذي رعانا حتى نشأنا.
فاللهم ارحم السي عبد الرحمن رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناتك، وأبدله دارا خيرا من داره، واجزه عنا خير الجزاء على ما علم وهذب وصبر وأحسن.
عزائي الحار لزوجته العظيمة وأبنائه البررة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إنا لله وإنا إليه راجعون