أطفال الصّيف المسروق

15 أغسطس 2025
Oplus_131072

– بقلم : ذة. حنان قدامة .

ظلّ نفس المكان يُلا قينا، مدخل السّوق المركزي حيث وقعت عليها عيناي لأوّل مرّة .
كانت تعرض بضاعتها في ذاك السّوق الصغير المكتظّ بالباعة الذين تعالت أصواتهم واختلطت بأصوات المتسوّلين .
رأيتها جالسة على كرسيّ عتيق ، منشغلة بتصفيف الخبز على طاولة خشبية مُهترئة هلهلها الزّمن كما هلهل حال أسرتها دنوت منها، أتار انتباهي مظهرها البسيط ،كانت ” أماني” تغطّي شعرها الأسود المعقوص خلف رأسها بمنديل أبيض زاد من جمال قسمات وجهها الدّقيقة خصوصا عندما تثور بعض من خصلات شعرها لتنسدل على جبين برونزي كثيرا ما كانت بائعة الخبز الصّغيرة تُقطّبُه عندما تلتقي عيناها الذّابلتان بعيون مشفقة على حالها وهي الطّفلة التي أذبل القهر زهرة ربيعها العاشر

سكنت بائعةُ الخبز وجداني وصار الخبز لا يطيب لي إلا من مائدتها
كثيرا ما كنت أجد ” أماني “بصحبة شقيقها الأصغر يقاسمها الوقوف تحت أشّعة الشّمس الحارّة ،يفتح لها الاكياس البلاستيكية ،يهشُّ على الذّباب المتحرّش بالخبز وبوجه شقيقته التي كانت تستجدي حماية مُتسول مُسن في غابة السّوق الموحشة في غياب أب موعود بنقل الخبز الطّازج من المرآب الذي يكتريه مع عائلته إلى طفليه في السّوق القريب .
ذات صباح وبينما ” أماني “تلّف لي الخبز سألتها:
ــ هل أنت من المدينة ؟
بابتسامة خجلى أجابتني :
ــ كلاّ أنا من دُوار قريب منها
وكأنّي بالصّبية تعطف على فضولي فتردف موضّحة :
ــنحن في كلّ صيف نقصد المدينة من أجل بيع الخبز.
تملكّني شعور بالحسرة دفعني إلى تلطيف حواري مع ” أماني ”
ـــ ألن تقصدي الشّاطئ هذا المساء ؟
لم تلتفت إليّ ،لكنّها اكتفت بابتسامة علتها ظلال من أحزان دفينة قبل أن تستطرد في الحديث :
ـــ أنا أحضر إلى السوق يوميا صباحا ومساءا
استهجنتُ سؤالي واستهجنت معه واقع أطفال في وطن من جمر، أطفال صيف مسروق تسمر شمس أسواقه بشرتهم بدل شمس شواطئه .
ظلت لقاءاتي بأمنية متتالية صيفا وراء صيف ،في كلّ صيف أجدها في نفس مكانها ،لم تحمل شمس السّوق جديدا سوى وقوفها تحت شمسية مصنوعة من رقاع أقمشة مختلفة الألوان .
ذات صيف التقيت بالطفلة دون أخيها ،استفسرتها عنه فلوّحت بيدها اليمنى في اتّجاه الرّصيف المقابل للسوق وهي تخاطبني :

ـــ ها هو قادم نحونا
اقترب الصّبي منّا ،كان يحمل فوق رأسه مائدة يرافقها نحل يتطاير حولها ، سلّم عليّ وشفتاه ترسم ابتسامة عريضة قبل أن يسلم أخته قارورة ماء بارد.
علمت سر سروره من النّحل المرافق لمائدته فقد ارتقى درجة في سلّم العمل الصّيفي ، لن يقف تحت أشّعة شمس السّوق المختنق بالنّاس ،سيقصد مع نحل مائدته الشاطئ حيث ستداعب أنفاسه نسمات الشاطئ المنعشة، ستغوص قدماه في الرّمال الباردة التي تنكسر عليها أمواج البحر ولربّما تلتقي بكرات طائشة يبثّها حنينه إلى اللعب
أسرع الطّفل الخطى صوب الشاطئ وصوته يجلجل :”بنيي سخون …. بنيي طري ”
حجب الشاّطئ الطّفل عن ناظري أيّاما معدودات قبل أن يتجدّد لقائي به في السّوق، في نفس مكان شقيقته ،استطلعته أخبارها أجابني ودموع جافّة تختبئ في عينيه :ـــ هي في الكراج تساعد أمّي المريضة .
ربتُّ على رأسه ورثيت في نفسي واقع ” اماني ” التي انصرفت عنها أمانيها ، تركتها تسبح في عرق دلك عجين الخبز في انتظار أن تسبح في البحر صيفا ما . حنان قدامة في : 13ــ08ـــ2025

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading