
مراجعات ثقافية :4
شذرات حول البياني والإشاري في الشعر المغربي الحديث :بقلم الأديب الباحث : د محمد لحسن الحراق
—— أعدها جمال عتو ——-
قبل الكتابة والنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي في موضوع الشعر والشعراء المغاربة، تواجهنا العديد من الأسئلة تكرر نفسها: من يكون الشاعر موضوع هذا المقال؟! مدى شهرته أو صداقته مع الكاتب …إلخ لأن مواقع التواصل الاجتماعي بهذا المنطق السائد أصبحت خطرا على الشعر والشعراء بسبب الكم الهائل من المحاباة والنفاق الاجتماعي والتزكيات العابرة للقارات التي تعلي من شأن الرداءة والتفاهة وتقصي المجدين المجددين من المبدعين والمبدعات، إما لجهل تام للشاعر أو لرؤية سطحية لا تنفذ إلى عمق التطوير والتطور في تجربته الشعرية. أو لحقد دفين مرضي أصبح هو السائد اليوم يعاني منه الشعر والشعراء. أضف إلى ذلك المهرجانات الشعرية إياها أو الجرائد أو المجلات إياها أيضا التي تشوه الشعر والشعراء يوما عن يوم.
نموذجنا اليوم خير دليل على ما نقول، معروف مشرقيا ربما أكثر من بلده المغرب، بل أجزم بأن الكثير من أدعياء النقد والشعر بمغربنا الحبيب من لم يسمعوا به ولم يقرؤوا له. لكنه يحظى بتقدير كبير عند نخبة أكاديمية متميزة في وطننا العربي، لذا جاء التكريم من طرف الدكتور الأديب الناقد محمد عبد الرضا شياع1 (العراقي مولدا ، المغربي هوى ودراسات عليا) عبر منصته المتخصصة، ومشاركة نخبة من الأكاديميين المتخصصين من بلدان عربية مختلفة. وقد كان لي شرف المشاركة بمداخلة تعتبر هذه المقالة مستواحاة منها2 .
هو شاعر وناقد أكاديمي مبرز متقن مدقق، وأحد المجددين المغاربة والعرب في التجربة الشعرية وفي الكتابات النقدية للشعرية الحديثة. لكن المفاجأة أنه غير معروف على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يحضر المهرجانات إياها. يتوارى عن الأضواء المزيفة، يدرس الشعر برؤية نقدية تجديدية تأسيسية لمدرسة شعرية مغربية وعربية حقيقية، تمنح للغة الشعرية أفقا جديدا يتجاوز المفاهيم والقوالب التقليدية الجاهزة، وإن ادعى أصحابها الحداثة والمعاصرة، هو صاحب الكتاب العلمي والنقدي “الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث” الذي كان موضوع أطاريح جامعية في عدة دول عربية لما تضمن من رؤى نقدية متميزة في أدبنا العربي الحديث وهو صاحب عدة كتب ومؤلفات منهجية متخصصة ومرجعية في هذا الشأن حضيت أيضا باهتمام كبير من طرف النقاد والمتخصصين شرقا وغربا يكفي أن نذكر ببعضها التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري ” 1989. “الشعرية بين المشابهة والرمزية: دراسة في مستويات الخطاب”1991 . “الإبداع الشعري والتحولات الاجتماعية والفكرية بالمغرب: من أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين للميلاد” 1992 كما لا يفوتني التنويه بالديوان الشعري الماتع متنا ومعنى الذي تفرد به “المسافة في ظل وهج الحرف” 2003، “النص الشعرى بين الرؤية البيانية والرؤيا الإشارية : دراسة نظرية وتطبيقية” 2003 . إنه أستاذ الأجيال مشرقا ومغربا الدكتور الشاعر والناقد أحمد الطريسي أعراب.
عند الدكتور الطريسي يتخذ الشعر معنى آخر ودلالات أعمق هو نظام إشاري بامتياز ، فالشعر منذ كان، اكتشف معه نظامه الإشاري في لغته الموقعة. فالشاعر الجاهلي مثلا لم يكن له إلمام بالاستعارات والعروض والقوافي والبلاغة قبل إخضاعها للتجربة الشعرية.
اللغة الشعرية هي لغة الكشف، وليست لغة الوصف، هي لغة تكتسب إشاراتها في الحضرة الإشراقية، حين يبدأ الشاعر بطرح أسئلته الكبرى، فتتألق هذه اللغة وتتحرك إلى أعلى وأعلى ، تتسلق ذرى الإستعارات والرموز والإشارات في مستوى المعاني التي تستجيب لارتعاشة الحلم الإنساني واشراقاته ، فليس هناك قبل عملية الحلم ، لا اللغة ولا الإيقاع ولا المعنى ، بل كل شيء يتحدد في جحيم المعاناة3 .
فرؤية الشعر عند شاعرنا تقترب نوعا ما من “الهايديغرية”4 ، فالشعر في مفهومه هو روح الرؤية، هو الذي يوقظ الرؤية الأرحب وهو الذي يعود بالكلمة فيمتاحها رشحا من نبعها الذي يجلي العالم ، فتتجلى الاستعارة الحية التي تحيي الكلمات الموات فتجعلها كلمتنا.
لهذا نجد أن قراءة نصوص هذا الشاعر تحتاج إلى قراءة مسلحة جيدا بالعدة والعتاد المفاهيمي والدلالي حتى نستطيع الوصول إلى جوهرة النص وحقيقة المعنى أو على الأقل أهداف المعنى ومراميه البعيدة . كما يقول ديكارت أن البحث عن الحقيقة كالبحث عن كنز مفقود في الصحراء ، فإذا لم تكن لديك الوسائل التقنية والخرائط لتقفي إشارات الطريق فإنك ستضيع في الصحراء وتضيع فرصة العثور على كنزك المفقود.
فهذا المثال يقربنا من مفهوم الشعر عند الدكتور أعراب ، فهو عالم إشاري ” تتجاوز فيه الأصداء والأصوات، ويدخل فيه المعنى إلى دهاليز أخرى . وهو يتخفى في أكثر من صورة…إنه لا يمنح نفسه بسهولة لكل قارئ ، فهو في حاجة إلى من يخلق معه علاقة حميمية دافئة حتى يسمح له بالدخول إلى دهاليزه الغامضة”5 . أو بمعنى آخر هي الدخول في عمق نفس التجربة الشعرية للشاعر والانغماس فيها كأن تصبح هذه التجربة تجربتك والمعاناة معاناتك والصوت صوتك لكنه بلسان الشاعر. هذا المعنى أجده يتردد كثيرا في الأدب الصوفي، أي الذوق . لا يمكن أن تحكم عليها من بعيد لابد من تذوق التجربة الروحية ويتلذذ بها.
من ذاق عرف ومن عرف اغترف ومن اغترف اعترف ومن اعترف أدمن ما عرف -كما يقول الصوفية- فالمعرفة عندهم ذوقية سلوكية وليست نظرية تقرأ عنها في الكتب. لا بد للقارئ من الانسجام الروحي التام مع النص.
هنا يحيلنا على مفهوم “ستانلي فيتش”6 الذي يعتبر أن “القارئ هو صانع النصوص”، لكن ليس ذلك القارئ المتحرر من كل إطار معرفي ومنهجي وإنما القارئ المنضوي ضمن جماعة تأويلية . لأن التأويل هو البحث عن المعنى، عن الحقيقة التي تغلفها الأشعار بعدة ألبسة مزخرفة جميلة من اللغة والأساليب والتقنيات.
تجدر الإشارة في هذه النقطة الجوهرية عند الدكتور أعراب أنه نظر لهذه المسألة الدقيقة في كتابه الصادر سنة 2003 ” النص الشعري بين الرؤية البيانية والرؤيا الإشارية” و في نفس الوقت أصدر ديوانه الشعري الوحيد المتميز ” المسافة في ظل وهج الحرف” (الدار البيضاء 2003) فجاء مفعما بنزعة شعرية تتضمن رؤيته الفلسفية للشعر ورؤاه الإشارية المنفتحة على كل تأويل.
ما أثارني في هذه التجربة الشعرية المتميزة، أن يحاور الدكتور أعراب الشعر بالمتنيين بالمنهج النقدي وبالذوقي الإشاري. فهذا نص نقدي تنظيري فلسفي ، وذاك نص شعري ذوقي إشاري ، لا يمكن قراءة الثاني تأويليا دون العودة إلى المصدر الأول للتزود معرفيا ومنهاجيا ، ولا يمكن قراءة النص الأول دون أن تقرأ الثاني لترى مصاديق الذوق ومعاني الإشارات ودلالاتها في قوالب فنية روحية عميقة. ستحس بيتم النص إن لم تكتمل الفراءة بالآخر . هنا تتجلى قوة ومتانة الفلسفة الشعرية والمدرسة النقدية التي أسس لها ببراعة طول مساره الأكاديمي والنقدي والإبداعي.
من الشذرات الإشارية التي رصدتها في قصيدة “طنجيس أجيبي” التي جعلها مسك ختامه للديوان المتفرد” المسافة في ظل وهج الحرف” جعل منها مسافة لا متناهية مادام وهج الحرف مشتعلا إلى الأزل، فيقول بعد أن حاور قرطبة واعتذر لها، ذهب ليُسائل طنجيس بل ليطلب منها الجواب والإجابة، يُسائل التاريخ، يُسائل الأساطير القديمة ، يُسائل الممالك الغابرة، فيقول:
هو النورس الأطلسي
يلمح ضوء عوسجة من لون الأقاح
والضوء في طنجيس من زهر الجراح
هو النورس الأطلسي
يلمح برق أشرعة
تخطفه النيازك ، يسابق الرياح
طنجيس أجيبي
من أسرج الخيل في دجى الليل؟
من لهذا الرحيل أباح؟7
فهذا النص الإشاري الفارق، جوهر السؤال العظيم، سؤال التاريخ الدامي، نتوءات الجراح، فطنجيس الأسطورية حملت عبء الجغرافيا والسنوات والقرون. ما زالت تنتظر النورس المنقذ ، ذاك الكائن الأسطوري الذي سيعود من غابر الأزمان رآه الشاعر في رؤيا الروح
” كانت تسبقه ومضة عشق
تنبع من أول عرق من القلب
إلى آخر عرق”
فمملكة طنجيس الأسطورية التاريخية التي عمرت طويلا وسيطرت على شمال إفريقيا فكادت تحكم سيطرتها على البحر المتوسط ، تحتاج اليوم إلى نورس يحمل هذه الصفات والمزايا ليلثم جراحها النازفة ويعيد أمجادها الغابرة، فهي لا تحتاج هرقلا الذي قسم الضفتين الأوربية والإفريقية بضربة سيفه البتار، لكنها تحتاج لنورس يمتلك ” ومضة عشق تنبع من أول عرق من القلب إلى آخر عرق”
وفي رؤيا طنجيس ” تنفض عنها ثوب رماد، تشبه وهج اللهفة في عين الطفل” فيغمرها الشاعر بكومة من أسئلة فلسفية تشمل الذات والوجود والكينونة ، حتى يصدمك باستشكال وإشكالات فلسفية أخرى يمتزج فيها الكائن الروحي بالتأويل الفلسفي ليحل ألغاز الأمكنة والأزمنة، ستتحد طنجيس بمملكة مجان، ستتحد العواصم بركاء وفاس:
“ما بركاء الآن وما فاس؟
فالكل توحد في لغة الإحساس
تتلون في العين الأسماء
تتوحد في القلب الأشياء ”
وبركاء مدينة بشمال سلطنة عمان ضمن مملكة مجان، مملكة أسطورية غرائبية أيضا على الضفة العربية من بحر العرب ، سميت مجان بالأشورية أي مملكة السفن . وهي إشارة إلى عظمة تلك الحضارة ، فمن امتلك أساطيلا من السفن امتلك العالم ، كناية على السيطرة على البحار. عبر الزمان والمكان، فجعل عاصمتا الامبراطوريتين العظيمتين طنجيس ومجان تتحاورا وتتجاورا في الأمل كما تجاورتا في العظمة والأحزان معا أيام زمان.
هذه بعض الشذرات من تأليف هذها الشاعر المغربي الأصيل ، الشاعر الذي خدم الشعر كتابة ونقدا وتنظيرا وتدريسا سنوات عديدة بالمشرق والمغرب، فخلف مدرسة شعرية محط اهتمام الباحثين والمتخصصين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. مجموعة زينب كحل الفردوس الثقافية من سان دييغو بكاليفورنيا محل إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية ، هنا رابط الندوة الدولية التكريمية للدكتور أحمد الطريسي أعراب تحت عنوان ” اسم يعبر بضوئه الزمن: قراءات في ديوان “المسافة في ظل وهج الحرف” https://www.youtube.com/watch?v=wLE_NXxm9HU
2. مداخلتي في الندوة الدولية يوم 13/07/2024 تحت عنوان : ” الرؤية التأويلية لرؤيا “طنجيس” للدكتور أحمد الطريسي أعراب. هنا رابط المشاركة https://www.youtube.com/watch?v=VCJBIFrgT5w
3. “النص الشعرى بين الرؤية البيانية والرؤيا الإشارية : دراسة نظرية وتطبيقية” الدار البيضاء، 2003. الصفحة (164/165)
4. الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ، صاحب نظرية الفيمنوليجا التأويلية ( كتاب الكينونة والزمان ، ترجمة فتحي المسكيني)
5. نفس المرجع ، الصفحة (143).
6. هل يوجد نص في هذا الفصل ، ستانلي فيتش أستاذ الأدب المقارن بأمريكا. ترجمة أحمد الشيمي ومحمد بربري . الطبعة الأولى سنة 2004 عن المجلس الأعلى للثقافة المصرية بالقاهرة، تحت إشراف جابر عصفور.
7. ديوان ” المسافة في ظل وهج الحرف” (الدار البيضاء 2003) ، قصيدة “طنجيس أجيبي”