
جمال عتو :
النفس البشرية آلافٌ من المتاهات الحياتية تسكنها، تلقاها تخبو تارة و تطفو أخرى، إن خبت يعاني صاحبها، وإن طفت حققت له تصالحا مع ذاته سلبا أو إيجابا متخذة أشكالا تفصيلية متعددة وهي تلك التي اصطلح على تسميتها: الفنون التعبيرية السبعة حسب تصنيف الفرنسي إتيان سوريو 1892-1979 ويقصد:
الهندسة المعمارية- النحت- الرسم- الموسيقى- المؤلفات: ( نثر، شعر)– الأداء: (مسرح، رقص)- السينما؛ وجميعها كما ترى – في انتظار اجتهاد نقدي مؤثر لتصنيف جديد- قلت: فنون تترجم إشارات النفس الإنسانية: تروية أو تجفيفا؛ وذات المتاهات، مع وجود الاختلاف، عاش العرب في جزيرتهم مقتصرين – دون حصر- على لغتهم المعجزة: شعرها ديوانهم، وسجعها نثرهم، وما دونهما من مكاء أو تصدية أو حداء أو أناشيد الدف أو أهازيج المعارك وأراجيزها لا ترقى رقيهما، غير أن عصا تلاقح المعارف الإنسانية حربا أو سلما بسطت سلطتها فمستهم كغيرهم … ليعرفوا في أربعينيات القرن الماضي نوعا جديدا من الشعر في العراق اصطلح على تسميته بالشعر الحر أو المطلق أو المرسل أو شعر التفعيلة، ومن رواده: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وشاذل طاقة ولميعة عباس عمارة؛ وهذا الشعر كما يظهر من الوهلة الأولى يحرر الشاعر من قيود الشعر العمودي ولزوميات الفراهيدي والأخفش أما عباس محمود العقاد (-1964) فوجده مهزلة لأنه يتحرر من البحور والقوافي، والشعر: بحور وقواف؛ بينما غيره يرى فيه تحررا يسمح بحرية أكبر في ظل أوزان وبحور طُوِّعتْ لتساعد الشاعر على إيصال أنّاته ومواقفه متوجبا عليه التقيد بها ليقدم شعرا حرا لا مجرد صف من كلمات منتقاة ليس إلا، والأوزان المعتمدة في الشعر الحر سبعة هي: الكامل/ الرجز/ الرمل/ الهزج /الوافر/ المتقارب/ المتدارك؛ والرواد أعلاه بداية من بدر شاكر السياب (-1964) وصولا إلى سعدي يوسف (-2021) التزموا بهذه القاعدة وأخضعوا قصائدهم للتفعيلة ولم يتركوها سائبة على عواهنها، ولك أيها القارئ- وقس- نموذجا للشاعرة: لميعة عباس عمارة (1929-2021 ) إذ تقول:
في قصيدتها: بغداد .
بغدادُ
/././.
مستفعل ( الرجز)
من بعد صدرك لم أجد صدرا
/././/. ///.//. /./.
متفاعلن متفاعلن فعلن ( الكامل)
حتى بأحلامي
/././/. /./.
مستفعلن فعلن ( الرجز)
أُدوِّر لا أرى
مفاعلتن فعو ( الوافر)
بيتا لأهلي فيك أو قبرا
مستفعلن مستفعلن فعلن ( الرجز)
وقد نجدهم يتجاوزون هذه الأوزان إلى غيرها كما نجد عند بدر شاكر السياب في قصيدته التي يقول فيها على البسيط:
يا غربة الروح في دنيا من الحجر
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن ( البسيط)
والثلج والقار والفولاذ والضجر
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
يا غربة الروح لا شمس فأأتَلِقُ
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
فيها ولا أفق
مستفعلن فعلن
وللتذكير فنازك الملائكة شاءت الاستغناء عن أوزان الخليل إياها ثم تراجعت لتقرر:” إن علاقة الوزن بموضوع القصيدة علاقة عضوية…فإن أحسن الشاعر اختيار الوزن أحسن في تحريك الموضوع وتقديمه، وإن أخفق في الاختيار أخفق في المعالجة ” ( نازك الملائكة ناقدة ) د/عبد الرضا علي .
وفي تقديمها لديوانها (شجرة القمر) 1967 دعت إلى العودة إلى القصيدة العمودية والالتزام بالتقفية الموحدة والأوزان الخليلية…
ولم تكن مدينة القصر الكبير بمنأى عما يدور حولها في عالم الشعر وجديده وهي المدينة التي حطت بها يوم 28 نونبر 1965 بدعوة من جمعية:” أصدقاء ابن حزم” رحال الشاعرين السوريين الكبيرين: نزار قباني (-1998) والناقد الشاعر: صالح الأشتر (-1992) والدكتور محمد عزيز الحبابي(-1993) الذي رشح لجائزة نوبل للآداب والدكتور: محمد العربي المساري(-2015)لاحقا وزير الاتصال؛ مدينة شعلة كهذه لابد أن تبصم الحياة الفكرية في وطنها ببصمة الإبداع والتجديد خاصة ومن أبنائها من عاد من الديار العراقية والسورية والمصرية متشبعين بتصور جديد للشعر وهو ما نجده في ديوان “رماد هيسبرس” للشاعر: محمد الخمار الكنوني (-1991) الذي يعتبر إلى جانب د/ أحمد المجاطي (-1995) ود/ محمد السرغيني، من المؤسسين الفعليين للشعر المعاصر بالمغرب وبخاصة شعر التفعيلة، وهنا أحيل القارئ ليشفي غليله على كتاب: ” محمد الخمار الكنوني في الذاكرة” من إعداد وتنسيق الأستاذ : محمد العربي العسري وإصدار جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير؛ وكما سبقت الإشارة فالوزن حاضر ولنقرأ من ” الرماد ” ما هو على وزن المتقارب:
[ تناديك باسمك
فعولن فعولن
ريح السهوب وقد حركت شجر النهر
فعلن فعول فعولن فعول فعولاتْ
[ وجه الغبار وقد ملأته الكتابهْ
شمس المحيط وما لونت من سفوح وغابْ
هِسَبرسْ تناديك باسمك في كل عام …]*
ونقرأ أيضا :
هِسَبرسْ غدا في أفول
فعولن فعولن فعولْ (المتقارب)…
أشرعت بابها للصوص تموت تزول
فاعلن فاعلن فاعلن فعِلن فعلن (المتدارك)
يدخل الزائفون
فاعلن فاعلات
يخرج السابقون
يصمد الخامدون
ينزل الكاذبون
قم على حافة النهر عظمك جلدك لحمكْ …
ما زال غضا
فعولن فعولن ( المتقارب)
فإنك حي
فإنك حي
لاحظ أيها القارئ أن الشعر الحر ليس حرا كما يتبادر إلى الذهن تحت إيهام التسمية ولكنه شعر مقيد هو الآخر بضوابط تحكمه وتؤثثه لا يستقيم إلا بها وفي ذات اللحظة متحرر من ضوابط القافية والروي ووحدة الوزن واتساقه، بحثا عن خيال ورمز خدمة لفكرة واحدة وإشباعا للخيال …
هذا في الواقع هو ما ينبغي أن يكون عليه الشعر الحر أو سنكون أمام ما أصبح النقاد يطلقون عليه اليوم : التغريدة النثرية وهذا شأن آخر …