“فزنا وَرَبِّ الكعبة”
—–— محمد عز الدين البدوي ——-
يعلم الله وأنا أعيش أصعب الأوقات ربما في حياتي، وقد أجزم أن هذا الشعور أصاب ويصيب غالب هذه الأمة .
إنها لحظات عصيبة ومنعطف لم يسبق أن تجرعنا مرارته، إنه زمن عسير ، زمن التمحيص أيام تظهر لمن هو مثلي تتقادفه أمواج بحر الدنيا مسودة كالحة الظلمة، ظلمات بعضها فوق بعض.
قهر وإبادة همجية على مرأى ومسمع العالم ، ونحن صم بكم عمي لا يعقلون، أو هكذا يراد بنا أن نكون .
هي لعنة الله ستصيبنا لا محالة، ولا ملجأ ولا منجى لنا من عقابه سبحانه إلا هو، نحتمي به سبحانه منه، أيادينا مغلولة إلى أعناقنا، لا نملك إلا الدعاء، ولا نستهين بمخ العبادة.
ماهذا الهوان؟ وما هذا الخذلان؟ أليس فينا رجل رشيد؟ ألهذا الحد ماتت فينا النخوة والشهامة والنجدة والإقدام؟ أليس في أمة المليار ونصف من يصيح وامعتصماه؟ واغزتاه! واقدساه! وافلسط-يناه!
وامسلماه! واإنساناه! وآدماه! وافطرتاه!
أجدني أذرف العبرات وأكثر النحيب، وفي نفسي هل ينفع البكاء، قلت: أكتب وإن كنت لست على ما يرام وقد يعجز البنان أن يخط ما يختلج القلب، تذكرت قول صاحبي الدكتور الأديب محمد الغرافي وهو يستحثني على مواصلة الكتابة :” أكتب حتى تتورم منك الأصابع” .
وهل أستطيع أن أكتب عن بعض ما يقع هناك؟ وهل أكون في مستوى من يكتب ؟
وهل ينفع ما أكتب؟ وهل يستطيع هذا الذي أخطه أن يقوم ببعض الواجب ولو بقيد أنملة؟
هل أجد لي عذرا وأنا أختبيء خلف شاشة هاتفي المحمول أكتب على استحياء، أصف مجريات أحداث عظام؟
استيقظت البارحة على فاجعة استشهاد ما يزيد عن المائة من المصلين في المسجد، وهم سجود في صلاة الصبح بين يدي ختم كتاب الله تعالى في جلسة هي خير من الدنيا وما فيها، في جلسة تعدل حجة وعمرة تامة تامة تامة، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتقى الشهداء إلى جنة الفردوس الأعلى، إلى جنة عرضها السموات والأرض، صدقوا الله فصدقهم،ويشاء وهو الكريم أن ينقلهم من دار البقاء إلى دار الخلد باذنه وهو العزيز الجواد الكريم، يشاء المولى عز وجل أن ينتقلوا للجلوس بين يديه وتلاوة كتابه العزيز في حضرته، وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة.
ارتقت تلك الوجوه النيرة الجميلة وهم يلبسون السندس والاستبرق.
أخاف أن يتذكر أحدهم ما نحن فيه من خذلان فيشكوننا إلى القهار الجبار المتكبر، أخاف أن يتقدم أحدهم فيقول : لن نسامحهم وقد بلغهم ما نحن فيه من فقدان الغداء والإيواء وحتى الماء والدواء.
أخاف أن ينبري ذاك الطفل الذي هدد يوما أنه سيخبر الله بكل شيء.
يخفف عني أن النعيم المقيم والنظر في وجهه الكريم، لا شك سينسيهم ما نحن فيه من هوان، وأحسب أن لا هم لهم اليوم إلا أن يشفعوا في أهاليهم وتذكرت قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}
عن مسروق، قال: سألنا عبدالله عن هذه الآية وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة، تركوا.( رواه الإمام مسلم في صحيحه).
بهذه الفاجعة تذكرت ما وقع لخيرة الصحابة الكرام البررة يوم الرجيع، تذكرة سبعين من القراء يغدر بهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله ﷺ الذين أرسلهم نبي الله ﷺ إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله ﷺ حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله ﷺ أهل هذا الماء؟ فقال – أراه ابن ملحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله ﷺ، فخرج حتى أتى حيا منهم فاختبأ أمام البيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل، قال: وقال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا: بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه.
أحسب أنهم مشغولون عنا بأمنياتهم أن يرجعوا إلى الدنيا فيقتلون مائة مرة،
فعن عروة، عن عائشة، قالت: قال النبي ﷺ لجابر يا جابر ألا أبشرك قال: بلى، بشرك الله بالخير، قال: شعرت أن الله أحيا أباك، فقال: تمن علي عبدي ما شئت أعطكه، قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى، قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع.
وإنه لجهاد نصر أو استشهاد وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.