
بسلسلة بعدها : ذ : جمال عتو
قلم الأستاذ الأديب : الميلودي الوريدي
مفهوم الشعرية من أهم المصطلحات المفاهيمية التي فرضت نفسها على مصنفات نقد الشعر على مر العصور والحقب والمدارس الأدبية؛ سواء الغربية أو العربية. ورغم ذلك فإن البحث النقدي – الشعري على الخصوص- إلى يومنا هذا لا يأنس إلى تعريف جامع، شامل وقارّ يعرف الشعرية ويحدد دلالتها، ويرسم حدودها وتجلياتها…
والعرب لم يكونوا أبدا خارج هذا الجدل المفاهيمي، فقد درجوا منذ العصور الشعرية الأولى على تدبيج بعض مفاهيمها في نتف نقدية، وإن كانت لا ترقى إلى صياغة نظرية نقدية تابثة يمكن تبنيها كمنهج نقدي متكامل؛ إلا أنها ساهمت على الأقل في تحديد الخصائص والتجليات- اللفظية والدلالية- الواجب توفرها في النص ليُصَنّف ويُستساغَ كقصيدة شعرية تجلت في مباحث أهمها : ( الوزن والقافية.. حسن اللفظ وجودة المعنى… الفصاحة والجزالة.. الطبع والصنعة… الأخذ والسرقة..).. والملاحظ أنها مباحث أسست؛ في كل تفرعاتها لمبدأ “ الإبداع في أعم وأسمى معانيه : الخلق على غير مثال .. ثم إلى تفريعاته : السبق إلى المعاني، التوليد فيها، التفنن في صياغتها، مخالفة الأوائل( أسلوبا و تركيبا وبناء). وخلصوا إلى أن الشعر لا يليق به إلا أن يمثٌلَ و يأتلقَ ويتجملَ وإلا كان كلاما منثورا قيل بغير قصد الشعر. و القصد عند النقاد العرب أول شروط الشعر و على الشاعر أن يعتزم قول الشعر قبل أن يقوله؛ لذلك أسموا ما كتب من الشعر” قصيدة ” ونعتوا مذاهب الشعر وأغراضه ب ” المقاصد”. فكان الشعر عندهم صناعة مركبة تقوم على ضروب من الوشي، وأنماط من النسج، وألوان من المشاكلة والاختلاف، وتمثلات من التصوير.. ومنه برز ” الافتنان” كمفهوم مرتبط بمبدأ الاختلاف والمخالفة لما ابتذل من فنون القول حتى داخل النص الشعري بكل عناصره المشكلة له.
والافتنان كما يدل عليه الأصل اللغوي للكلمة نفسها من مادة ” اِفتنَّ ” ، وفي اللسان : اِفتنّ في حديثه؛ إذا جاء بالأفانين… وافتنّ إذا توسع وتصرف… والرجُل يفنن الكلام أي يشتق في فن بعد فن…
وفي الاصطلاح ترد اللفظة في كتب البلاغة والنقد والشروح بمعنى التوسع، والتصرف، والمغايرة، والاهتدام، والتنويع، والمخالفة، والتلوين…ومرجعنا في ذلك قول ابن رشيق في عمدته عن خصائص شعر ابن المعتز:( إن صنعته خفية لطيفة، لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر. وهو عندي ألطف أصحابه شعرا، وأكثرهم بديعا وافتنانا، وأغربهم قوافيَ وأوزانا.).. واللفظة”افتنانا “ هنا جامعة لمفهومين هما : التفرد والإجادة….
وتأسيسا على ذلك نلاحظ أن سمة ” الافتنان ” راجعة في عمومها إلى التضاد الذي يتسع ليشمل الاختلاف والمخالفة بكل أشكالها وتجلياتها إن على مستوى البنية، أو المعاني، أو الصور، أو المعجم، أو الإيقاع…و يتحقق بالسبق إلى المعاني، والتوليد فيها، والتفنن في صياغتها، ومخالفة الأوائل ( أسلوبا وتركيبا وبناء )أو بمعنى جامع أساسه التفرد في التركيب اللفظي لبلوغ الإجادة في المعنى.. كل هذا لتحقيق مفهوم آخر نراه موازيا ومكملا في نفس الوقت لمفهوم “الإمتاع والمؤانسة” وهو : افتنان الشعر لبلوغ افتتان المتلقي… والافتتان هنا بمعنى : التوله بالشيء والإعجاب به
ومن كل ما سلف لا يسعنا إلا القول : أن المباحث العربية العارضة في المصنفات النقدية للشعر والعانية بالتأسيس لمفهوم الشعرية العربية- تلميحا أو تصريحا- لم تكن في كل تجلياتها إلا مستهدفة لبناء المعنى النموذجي الذي يطمح إليه الشعر…والذي عبر عنه الشاعر في قوله :
الشعر مرآة عقل يستدل به ——— على موازنة الألباب والفطن
فلا تغرك أشباح معطلة ——— فإنما الشعر مثل الروح في البدن.
لذلك نستطيع القول أن “افتنان” الشاعر يؤدي بالضرورة ل” افتتان ” المتلقي .. فالافتتان: التوله بالشيء والإعجاب به.. كما قال الشاعر العباسي ابن القيسراني:
تفرّق الحسن إلا في محاسنه ———– ويلاه من فِتَنٍ جُمِعْنَ في فنن…
وإذ يفرض الحال التعرض لمفهوم الشعرية في النقد الحداثي، بتتبع مقولات النقاد العرب عنها؛ نجدهم يتبنون مقولة ( الشعر : الانزياح)، كما ورد في تعريف “ كمال أبو ديب :إذ الشعرية– بحسب رأيه– تظهر في النص حين يخرج من الاستعمال العادي إلى استعمال مجازي، فــ“الشعرية ليست خصيصة في الأشياء ذاتها، بل في تموضع الأشياء في فضاء من العلاقات“كتاب : في الشعرية. وعنده؛ كما هو واضح في مقولته؛ أن لا ميزة للكلمة بانفرادها، بل تكمن قيمتها باتحادها مع غيرها لتشكل نسيجا لغويا مفيدا.
فالقيمة الجمالية للغة تأتي حينما تنزاح عن استعمالها الحقيقي المألوف الاتصالي، إلى استعمالات جديدة بلاغية، هذا لأن “استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجددة لا ينتج الشعرية، بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة، وهذا الخروج هو خلق لما أسميه الفجوة :مسافة التوتر“ نفس المرجع السابق، فاللغة الشعرية هي التي تحدد فرادة العمل الأدبي، وتَمَيز طريقة كل أديب عن آخر. والواضح من المقولتين أنهما تستندان إلى نظرية ياكبسون في دراسته للوظائف الستة للغة والتي لا يهمنا منها في مقامنا إلا الوظيفة السادسةن والمتمثلة في ما أسماه : الوظيفة الشعرية، وخصها بأنها توضح الجانب الإشاري في اللغة، وبأنها إسقاط لمبدأ الاختيار على محور التأليف…مميزا بين العلاقات الأفقية والعلاقات العمودية في الإشارات..
وليس معنى ذلك أن النص الأدبي لا سلطة له، فسلطته تكمن في أنه يقيم علاقة خاصة مع اللغة المعجمية أو القاموسية، فينحي بها من سياقاتها التداولية الجذرية، ليطوح بها إلى بناءات تركيبية ودلالية جديدة مستمدة من قاعدة أن الإبداع لعبة واعية باللغة، وتشكيل هادف للدلالات… ووفق هذا التصوُّر، يُنظر إلى النص باعتباره شبكة من العلاقات الدالة التي تتعالق فيما بينها استناداً إلى سنن بنيوي خاص يُعتبر الوعي المسبق به من طرف المتلقي مطلباً حيويا لتجلية المعاني التي يحيل عليها. فهو وحدة دلاليَّة، ميزته الرئيسة أنَّه لا يستطيع أن يكون متتالية من الجمل لا رابط بينها فقط، بل هو بناء قصدي خاص ومتفرد، الكلمة فيه مرهونة ومرتبطة بتمثيلات قارَّة في الذاكرة الدلاليَّة الجمعية التي يندرج ضمنها منتج الخطاب ومتلقيه …لكنّ لغة النص الاستبدالية تنسج دلالاتها استناداً إلى تطوُّر توزيعي ترتكز مادَّته على ما يتحقّق ضمن السياق المفترض للنَّص، لا استناداً إلى الذاكرة البعيدة للكلمات والألفاظ …مع الإشارة إلى أن اللفظ المقصود هنا يشمل اللفظ العادي ( العلامة ) كما يشمل اللفظ الذي تستعيره اللغة المثقفة والقادر على تمثيل دلالة مغايرة بمقتضى علاقة التماثل (الرمز)، من حيث كونه ” نظاما مسترسلا من الألفاظ يمثل كل واحد منها عنصرا من نظام آخر. ” معجم لالاند للمصطلحات الفلسفية . أو كونه لعبة إحالية تنقل الملموس إلى المجرد، و تطيح بالدلالة العلاماتية المخصوصة؛ مقابل إنتاج المحمول الكنائي الغامض إلى حد مقاربة الإرباك… بسبب الغياب الواضح والمقصود لأي اتفاق تأويلي مسبق بين المنتج والمؤول.
وهنا يجب أن نتفق أولا بأن :
– الغموض لا يعني انعدام الدلالة.
– الإرباك لا يعني تعطيل الإدراك.
– غياب الاتفاق التأويلي المسبق تعوضه قواعد تداعي الأفكار العامة، وإستراتيجيات تأويل الخطاب المرموز، وإعادة بناء دلالاته غير المباشرة …
– النص النثري يرتهن إلى :
① اللغة الإدراكية ←دلالية ← دلالة المطابقة ←مردها إلى الإدراك←تحظى بقيمة دلالية …
بينما يرتكز النص الشعري على :
② اللغة الانفعالية ← خارج الدلالة ← دلالة الإيحاء ← مردها إلى التأويل ← تحظى بقيمة إحالية بعيدة الدلالة .
وعلى هذا الأساس يتضح جليا أن اللغة الانفعالية لها آليات إجرائية لجعل دلالتها ذات أبعاد إحالية متمنعة عن الإدراك إلا عن طريق تأويل مستوياته الإيحائية وإشاراته الرمزية.