
بقلم. الخليل القدمري
بعد أن خضع للتقدم الزمني الحتمي، كغيره من الكائنات، ونال من وعاء الزمن ما يتوافق وظروفه الاجتماعية، ويتعارض مع مؤهلاته وطموحاته، جلس الإسكافي في مقر عمله، يتأمل مسار حياته الزاخر بالمتشابهات والمتناقضات.
توقف عند صورته وهو طفل نشيط، يلعب تحت ظل نظرات أبيه، ويتوقف، من حين لآخر، ليرى أثر شغبه على مشاهديه، ويتأمل مهارة والده في إصلاح الأحذية وتلميعها. ثم امتد حبل تفكيره إلى مرحلة الدراسة، في الستينات من القرن الماضي، حين أهّله ذكاؤه وطموحه إلى نيل شهادة البكالوريا في شعبة الرياضيات بالثانوية المتعددة الاختصاصات، بميزة “ممتاز”.
وبعد أن أصبح على مشارف تحقيق مستقبل زاهر في ميدان العلوم الحقة، دارت به الدوائر بشكل درامي، ليتحول من تلميذ لامع، مليء بالحيوية والنشاط، إلى إسكافي صغير بزنقة “الطرّافين” بمدينته العتيقة.
توفي الأب بعد مرض عضال، فوقع على ابنه عبء إعالة إخوته، وانتهى به الأمر منقطعاً عن الدراسة بعد أن تعذر عليه الحصول على منصب شغل في القطاع العام أو الخاص بسبب مرض ورثه عن أبيه.
بفعل جبروت وضعيته الاجتماعية المتردية، تطايرت أشلاء كل ما تبقى لديه من تقدير ذاتي استقاه من تفوقه الدراسي، وما فضل منه سوى صورة بئيسة تنكب على إصلاح وتلميع أحذية بالية، مقابل أجر زهيد، دون أن يصدر عنه أي تذمر أو شكوى.
تكالبت على هذا الإسكافي براثن المرض والفاقة وشظف العيش ومرت حكايته في غفلة تامة من مجتمع المدينة، كما هو حال العديد من المواهب الصاعدة التي لا تحظى بأدنى اهتمام.