
إشراقات ثقافية
من تقديم أمينة بنونة
محمد الخمار الكنوني في الذاكرة
إعداد وتنسيق الأستاذ محمد العربي العسري.
محمد الخمار الكنوني نموذج المثقف الجدي
د. مصطفى يعلى
“ها هي شجرة أخرى تسقط قبل أن تطرح كل ثارها الطيبة.. لما فاجأني الصديق الدكتور إبراهيم السولامي بنبأ وفاته، اهتزت أعماقي بشكل لم أستشعر أثره في مناسبات مماثلة. ظلت صورته طيلة الأيام الموالية تلازمني لحظات نهاري وليلي” (العلم الثقافي مارس 1991)
محمد الخمار.. أيتها الثمرة الشعرية المنتقعة في المرارة والأعصاب. عرفته منذ بداية الستينات. أصبحنا صديقين حميمين دون مقدمات. أشياء كثيرة كانت تربطنا هموم ثقافية وسياسية واحدة. تطلعات إبداعية بكر تبحث عن ذاتها لترسخ الإنساني وتضيف الممكن. وكان هو قد تألق اسمه شاعرا واعدا زكته قصيدتا (حبيبتي) و (آخرآه) الناجحتان غنائيا. فأصبح بالنسبة لي ولمجموعة من الأصدقاء مثلا يحتذى لما كان
يتميز به من صفاء ذهن، وسعة معرفة وحسن تحليل لمجريات الأمور فضلا عن نبل مشاعره وجديته النموذجية. قلت جديته؟ إنني أعتبر الجدية مفتاحا لكل شيء بالنسبة للراحل العزيز.
فقد كان يأخذ نفسه بكثير من الحرص في التعامل مع الآخرين، وتحضرني هنا الآن الجلسات الممتعة في (الكازينو) بمدينة القصر الكبير خلال الستينات وأوائل
السبعينات: المرحوم عبد السلام الطريبق، المرحوم محمد الخمار، حسن الطريبق، محمد المصباحي، محمد بوخلفة، محمد العربي العسري، محمد الجباري وآخرون. يحتد النقاش في السياسة، والأدب والصحافة، والمجتمع وغيرها. وتتعالى النكات اللاذعة الصاخبة. ورغم المناوشات المؤذية من قبل هذا أو ذاك فدائما كان موقف الراحل منها لبقاً رغم ما يستشعره فيها من عدوانية، وما كانت هذه الجلسات تحلو في غياب المرحومين عبد السلام الطريبق ومحمد الخمار.
كما أن الراحل ما كان يكف عن بذل الجهد المميت لإنضاج فكره وصقل موهبته بنهم للمعرفة والإبداع نادر المثال فإلى جانب الصرامة مع النفس في القراءة العميقة المستمرة لكل ما هو دسم ومتخصص، كان حريصا كل الحرص على متابعة ما يجد في الساحة الثقافية باهتمام بالغ، مع قدرة على حسن التمييز بين المفيد الأصيل والجفاء الذي لا ينفع، الأمر الذي ساهم في تكوين شخصيته الفكرية والإبداعية بالصورة
المعروفة.
على أنني لا أزال أذكر بالنسبة للجانب الإبداعي لديه أنه كان أكثر جدية وحرصا في إنتاجه الشعري مما يفسر قلة نصوصه. فقد كانت تنتابه حالات من القلق
والتوتر. ونحن بعد طلبة بكلية الآداب بفاس أواسط الستينات. خلال إنتاج القصيدة، إذ كانت تمر عليه أيام وأيام وهو يعاني من صعوبة استقامة مقطع شعري في قصيدة هو بصدد إبداعها. وذلك كان طبعا فيه يغذيه إحساسه بمسؤولية المبدع تجاه إبداعه وقرائه. وتجاه خطورة مرحلة التأسيس التي كان يمر بها الشعر المغربي في تلك الفترة. ومن هنا كان التقدير الكبير الذي كان يكنه للأستاذ الشاعر أحمد المجاطي، ومن هذا الإحساس الجاد بالمسؤولية أيضا كانت رعايته لمحمد بنيس في مستهل حياته الشعرية.
إن نفس الجدية وقفت وراء مرور أكثر من عشر سنوات على تسجيل محمد الخمار
موضوعا عن الشعر المغربي لتحضير دكتوراه الدولة، دون إتمامه. حيث لم يكن هدفه من هذه الشهادة جانبها المادي فقط، وإلا لأسرع بمناقشتها منذ مدة كما فعل الكثيرون، لكنه كان يرمي إلى انتهاز الفرصة المتاحة للكشف عن تراثنا الشعري المجهول في فترة
غامضة أدبيا. ومنذ سنة تقريبا التقيته في باحة كلية الآداب بالرباط، ولما جرنا الحديث إلى موضوع أطروحته ذكر لي أنه لربما عدل عن مناقشتها بسبب تدني مستوى هذه الشهادة ببلادنا، ولأنه قد يحقق الهدف المرجو من بحثه عن طريق نشره.
وعلى ذكر تدني المستوى، فكم كان يمتلئ أسفا في السنوات الأخيرة على تدني مستوى الطلبة بالجامعة المغربية، حيث لم يكن يتصور أن يكون الطالب الجامعي الذي سيحصل على الإجازة في الأدب العربي لا يحسن قراءة قصيدة شعرية باللغة العربية.
فمرة وبعد انتهائي والصديق عبد الرحيم مودن من الدرس الإضافي الذي كانا نلقنه لطلبة بعض الشعب بكلية الآداب بالرباط، التقيناه بالكلية متوترا غاضبا، وعند جلوسنا بالمقهى استنكر بحدة كيف يمكن للطالب الجامعي أن يعجز عن قراءة قصيدة في الوقت الذي لا يكف فيه عن التبجح بالمصطلحات والتباهي بأسماء الأعلام الأجانب،
وربما بلغ المرحوم محمد الخمار ذروة جديته في مناقشة الرسائل الجامعية، فهو ما كان يصفح عن الهنات والفلتات بالأحرى عن الأخطاء القاتلة، دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم، وهو لذلك كان يقرأ البحث قراءة شاملة ومدققة، تقديرا منه لخطورة البحث الأكاديمي وحفاظا على مستواه المطلوب.
لكن هذه الجدية في شخصية محمد الخمار، كانت بالإضافة لما سبق تنعكس حتى على ردود أفعاله. وحسب معرفتي بالراحل تبقى أهم ردود الفعل هذه، موقفه من التهميش الذي كان يستشعره من المؤسسات الثقافية، ورد فعله تجاه لعبة الانتخابات المحلية السابقة. فهو لم يسفر، ولم ينشر له من قبل تلك المؤسسات، ولا كان يشرك في الأنشطة الثقافية المختلفة التي تنظمها، مع استثناء ما هو جامعي بالطبع. ومما كان يؤلمه وهو يرى كثيرا من الطفيليات تولغ في كل ذلك. فتربى لديه موقف سلبي تجاه
المؤسسات الثقافية، أصبح تطبعا في شخصيته يعرفه الخاصة من أصدقائه، لكنه موقف دال على صدق الراحل مع نفسه .
وهو حين مورست تجاهه لعبة خبيثة خلال الانتخابات المحلية السابقة، لم يحتمل الصدمة، كما بدا لي واضحا خلال زيارتي له والصديق الأستاذ الشاعر أحمد طريبق، في منزله بحسان في الرباط، منذ ثلاث سنوات تقريبا. لقد احترقت أعصاب الرجل، لهذا غادر المدينة التي أحبها حبا صوفيا تجسده كثير من قصائده، ويؤكده تحمل مشاق السفر كل أسبوع بين القصر الكبير وفاس عندما كان يعمل أستاذا بكلية الآداب بظهر المهراز لسنوات طويلة. غير أن صدمة الانتخابات هزته بعنف، فقرر الاستقرار بالرباط نهائيا، وها هي الأقدار تشاء أن يموت ويدفن بهذه المدينة التي أحبها وتغنى
بأزقتها وقراميدها وطبيعتها وانسانها وأحداثها، وعاش فيها أكثر لحظات حياته صميمية.
ولعلي لا أنسى فيما أذكر عن الخمار في هذا الجانب، تجربة الموت في حياته، على اعتبار الموت أكثر اللحظات ارتباطا بالجد إن لم يكن هو الجد ذاته. فعندما رزئت الساحة الفنية المغربية بموت عبد السلام عامر أواخر السبعينات، قال لي ونحن نتجول بأزقة القصر الكبير القديمة إن العمر شديد القصر ولذلك يجب على أمثالنا أن يملأوه بها يعني الفكر والإبداع ليكون لهم كالصدقة الجارية، وإن كانت ملامسة الخمار للموت تعود إلى الوراء بسنوات، إلى أواخر الخمسينات، حيث أصيب بداء صدري نقل بسببه إلى مستشفى الأمراض الصدرية بابن قريش في ضواحي تطوان.
وأذكر أنه كرر لي أكثر من مرة أيام الدراسة بفاس أن الموت كان قد أصبح لديه شيئا مألوفا في المستشفى، إذ يحدث أن يموت المسلولون بشكل عشوائي، أحدهم
يذهب إلى المرحاض فلا يعود، آخر ينام بالليل فلا يستيقظ، وثالث منهمك في لعبة (الضامة) يتأوه فجأة ثم يسقط، وهكذا. إلا أنه كان يتوقف متهيبا عند حادث بعينه، ذاك أن مريضا طلب منه مرة أن يكتب له رسالة إلى أهله، وذهب ليأتي بالقلم والورق، وانتظره الخمار طويلا، فقد كان الرجل قد فارق الحياة. وفي مرضه الأخير رأيته بعد إجراء العملية وتماثله للشفاء، فكان أول ما بادرني به قوله: “لقد أفلتت بجلدي يا مصطفى”، لكن الأقدار كانت تخبئ له شيئا آخر .
وبعد، فمبدع كمحمد الخمار الجد أهم ميزاته، يطوقنا بواجب العناية بعطائه، وفي مقدمة ذلك نشر ديوانه الثاني على الأقل، وتلك مسؤولية اتحاد كتاب المغرب
ووزارة الثقافة وكليتي الآداب بالرباط وفاس.
فوادعا محمد الخمار وسلام عليك صديقا وشاعرا.
جدل الإنساني والمعرفي في شخصية الخمار
أن يتثقف المرء معناه أن يصبح ملتزما أخلاقيا وإنسانيا وفكريا، أي أن يرنو إلى الاكتمال. فالثقفافة وحدها لا تكفي دون هذا الشرط، والمرحوم محمد الخمار من الشخصيات النادرة التي استطاعت أن تتثقف لتعميق الوعي بالذات والناس، وبالتالي تحديد الموقف المطلوب منها، وعلى هذا كانت المعرفة تصب في الإنساني لديه، في حين كان هذا البعد الأخير يوجهه لاختيار الأفضل تليدا وطارفا، من أجل فهم أكثر
لعضلات الفكر والواقع،
والأمثلة كثيرة على هذا.
لقد أخذ نفسه بتثقيف صارم في الثقافة التراثية العربية، وفي الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، فضلا عن الثقافة الأجنبية. مما انعكس على فعاليته الجامعية، وعلى موهبته الشعرية، فعلا بهما إلى مستوى محمود، لطالما أشاد به زملاؤه وطلبته والمتتبعون لعطائه.
وهو كان يستوعب جيدا حركة الواقع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. لذلك كان يهتز انفعالا وألما للنكسات المحلية والقومية المتتالية، ويألم للواقع المتردى، كما كان يعامل الآخرين بدماثة، مقدرا إمكانياتهم أحسن التقدير.
لهذا وذاك، ترك هذا الأثر الطيب في زملائه وأصدقائه وطلبته، بكثير من جهات المغرب، لا سيما في مسقط رأسه القصر الكبير. وكل ذلك، لكون المرحوم محمد الخمار مارس طيلة حياته القصيرة هذه الإزدواجية النموذجية التي يتفاعل فيها الإنساني والمعرفي، ويتجادلان لصنع الشخصية المثلى كشخصية المرحوم. (ص 70/71/72/73/74)